(8)
3- الإعجاز اللغوي واللفظي للقرآن من خلال بلاغته وفصاحته (منفرداً أو منظماً لوجوه أخرى) لا يمكن قبوله؛ لأن البلاغة والفصاحة مسألة نسبية وذوقية باعتراف علماء اللغة أنفسهم “البلاغيون منهم بالخصوص”، ولم يتم تحديد ضابط ومعيار علمي موضوعي دقيق لتمييز (الكلمة أو الكلام) الفصيح عن غيره ولا لتمييز الفصيح عن الأكثر فصاحة؛ فضلاً عن تمييز المعجز في فصاحته عمّا سواه.
- السلامة من تنافر الكلمات، أي: لا يوجب اجتماعها ثقل اللسان.
- السلامة من ضعف التأليف، أي: الجريان وفق المشهور من قواعد النحو.
- السلامة من التعقيد، أي ضعف المعنى.
- فصاحة كل كلمة فيه.
لكنهم سرعان ما يتنازلون عن شروطهم إذا ما وجدوا أنّ أول من خالفها هو القرآن نفسه، فمثلاً: اجتماع حرفي “الحاء والهاء” أو “العين والهاء” في الكلام يوجب الثقل كما هو المقرر لديهم، مثل: “سبحه، أعهد”، والمفروض أنّ ورودها في كلام يوجب عدم فصاحته لمنافاته أحد شروط الفصاحة عندهم، لكن لأن مثل ذلك ورد في القرآن فيبقى الكلام على فصاحته بالرغم من مخالفة الشرط!
كذلك الحال بالنسبة إلى الشرط الثاني، فالقرآن لم يعر للكثير من مشهور قواعد النحو اهتماماً يذكر في آيات كثيرة كما سيأتي توضيحه لاحقاً، وبالرغم من ذلك لم يؤثر ذلك على فصاحته عندهم.
أيضاً: بناء على الشرط الثالث يفترض أن لا يكون الكلام المعقد فصيحاً، لكنهم في نفس الوقت انبهروا بأبيات شعر للمتنبي وغيره وأضفوا عليها سمة الفصاحة البالغة مع اعترافهم بتعقيدها المفرط ! انظر: الجرجاني: الوساطة بين المتنبي وخصومه: 98.
وهذا يعني – بحسبه طبعاً – أنّ فصاحة القرآن إنما هي باعتبار الخلّص من العرب الذين يفترض أنهم يعرفون كل دلالات ومعاني ألفاظ القرآن، لكن واقع حال الكثير من المسلمين العرب كأبي بكر وعمر وابن عباس وغيرهم يشهد بخلاف ذلك، وبالتالي يفترض أن لا يكون القرآن فصيحاً بالنسبة لهم بناء على شروط البلاغيين، لأنهم – بحسب ما ورد من أثر – لا يدرون معنى: “وأبّاً”، “فاطر”، “غسلين” في الآيات، اللهم إلا إذا كان البلاغيون لا يرون أنهم وأمثالهم عرب خلّص وأنّ القرآن مقتصر على أمثال امرئ القيس وزهير بن أبي سلمى والنابغة الذبياني وأضرابهم، ولا أدري إن كان هؤلاء يعرفون معاني كل مفردات القرآن ودلالاته فعلاً، وهو فرض بعيد جداً بطبيعة الحال.
ما يهمني فعلاً هو أن نعرف أنّ شروط الفصاحة – للكلمة او الكلام – لم تثبت عندهم بدليل قطعي، ولم تخضع في شروط تحققها لضوابط علمية وموضوعية دقيقة تجري في جميع الموارد والحالات، وإنما هي مجرد شروط ناتجة عن الاجتهادات الظنية والأذواق المتباينة وتختلف بين شخص وآخر، ولهذا خالف القرآن – والشعر الفصيح أيضاً – مجمل شروطها، وبالتالي فهي – أي الفصاحة – ليست بأكثر من كونها أمراً نسبياً خاضعاً لظروف المستمعين وبيئاتهم المختلفة التي ينشؤون فيها.
قال ابن أبي الحديد: (اعلم أن معرفة الفصيح والأفصح والرشيق والأرشق من الكلام أمر لا يدرك إلا بالذوق ولا يمكن إقامة الدلالة عليه) السيوطي، الإتقان في علوم القرآن: 2/478.
قال الخطابي: (ذهب الأكثرون من علماء النظر إلى أن وجه الإعجاز فيه من جهة البلاغة لكن صعب عليهم تفصيلها وصغوا فيه إلى حكم الذوق) الزركشي، البرهان في علوم القرآن: 2/101.
- كلام غير فصيح.
- كلام فصيح.
- كلام أكثر فصاحة.
- كلام معجز من حيث الفصاحة.
وإذا كانت شروط الفصاحة عند العلماء (كما تقدم) لم تمنحنا ضابطة علمية دقيقة لتمييز الفصاحة في المرتبة الثانية فضلاً عن الثالثة (التي تحوي دون شك مراتب عديدة؛ لأنّ الأكثر فصاحة ليس كله بمستوى واحد)، وأنّ الأمر في تمييز ذلك نسبي ويرجع إلى الذوق في كلا المرتبتين كما عرفنا، فما بالك بمعرفة “الفصاحة المعجزة” ضمن مستوى المرتبة الرابعة، وما هي الضابطة العلمية التي وضعها العلماء لمعرفة “الفصاحة المعجزة” وتحديدها وتمييزها عن الكلام “الأكثر فصاحة”؟!