(9)
القسم الأول
4- لا يمكن بحال قبول مقولة الإعجاز اللغوي للقرآن؛ ليس لما تقدم فحسب ولكن لأن القرآن الكريم كتاب إلهي مُنزل ومُوحى من عوالم علوية، والوحي لا علاقة له باللغة الأرضية إطلاقاً، كما أنّ العوالم العلوية الموحى منها ليست فيها أي لغة من اللغات الأرضية أصلاً؛ لأنها عوالم أرقى وأكمل وبالتالي فوسائل التعليم والتواصل فيها تناسب رقيها حتماً، وأما اللغة فهي من لوازم عالمنا الجسماني فقط وهي وسيلة للتعليم والتواصل بين الناس فيه وليس دائماً أيضاً.
ما يهم الآن أن نعرف أنّ اللغة نتاج تطوري أرضي سواء على مستوى توفر القالب اللغوي البيولوجي في وجود الإنسان أو على مستوى المفردات، فكلا الأمرين يسيران مع الإنسان من البساطة إلى التعقيد كحال لغة الطفل تماماً في بداية نشوئها وتطورها، ومسألة تطور اللغة واستكمالها التدريجي أمر تجمع عليه بحوث ودراسات علم اللغة الحديث وتقرّه بعض البحوث القديمة أيضاً.
وكون اللغة نتاجاً تطورياً كافٍ لدحض فكرة أنّ لغة ما (عربية كانت أو غيرها) تحوي إعجازاً لغوياً (في ألفاظها) بنحو لا تمتلكه أي لغة أخرى، فمثل هذا القول لا معنى له أصلاً؛ لأن القالب والنظام الذي زوّد به الإنسان واحد لدى البشر كلهم، أما تعبئته بالمفردات وتشغيله بها فهذا أمر عائد للإنسان نفسه بحسب بيئته ومحيطه وظروفه التي يحيا فيها، علماً أنّ الغرض من توفر (القالب واللغة بتبعه) يتحقق بأي لغة كانت، فالتفاهم والتواصل وإنجاز الأغراض المتوقفة عليهما يحصل بجميع اللغات كما هو واضح.
نعم، يمكن أن يحصل تفاوت “عرضي” بين اللغات، لكن لا من جهة القالب والنظام، ولا من جهة نفس الألفاظ التي تحتويها اللغات، وإنما لأمر طارئ خارج عنهما، فما حصل مع اللغة العربية – مثلاً – سابقاً من اهتمام يحصل مثله اليوم مع اللغة الإنجليزية تماماً، فلما ظهر بين العرب آنذاك علماء كتبوا في جوانب علمية ومعرفية مهمة وجدت الشعوب (التي تتحدث بلغات أخرى) نفسها مضطرة للاهتمام بالعربية وترجمة تلك الكتب لأجل الاطلاع والمعرفة، وهو ما يحصل مع لغة العلم العالمية في أيامنا هذه، أعني الإنجليزية.
وعموماً، يمكن لأي متتبع لبحوث علم اللغة أن يتوصل إلى النتائج التالية:
– إنّ اللغة ظاهرة اجتماعية، الغرض منها التفاهم والتواصل بين الناس.
– لا دليل علمي صحيح يؤكد توقيفية اللغة (الأصل السماوي لها) وأنها منحة إلهية وُهبت للإنسان دفعة واحدة بوحي أو الهام، كذلك لا دليل علمي على أنها حصلت بالموافقة والتواضع؛ خصوصاً بعد مشاهدة حصولها من جميع الناس بيسر وسهولة وتلقائية، وهي بذلك خلوٌ من سائر التعقيدات التي يفترضها “التواضع والاصطلاح”.
– الرأي العلمي السائد الآن في المجامع العلمية أنّ اللغة غريزة وفطرة، وهذا ما يفسّر سهولة تحصيل الإنسان لها، وإن كان منقسماً – من حيث ظهورها كنظام وقالب في وجود الإنسان – بين توجهين يقودهما كل من عالم اللغة الشهير البرفيسور نعوم تشومسكي الذي يرى ظهروه فجأة، في قبال د. ستيفن بنكر الذي يعتقد بخضوعه لمبدأ الانتخاب الطبيعي، لكن الطرفين يتفقان على أنّ اللغة نفسها كمفردات خاضعة للتطور حتماً.
– بحسب علم اللغة الحديث أيضاً، فإنّ التركيب والقالب الذي يستمد منه الإنسان (الطفل) مهارته في اكتساب اللغة لا ينتمي في حقيقته إلى لغة معينة، وعليه فلغته “الأم” يمكن أن تكون أي لغة كانت، وهذا الأمر يمكننا أن نتحقق منه ببساطة، فالطفل البريطاني سيتكلم العربية بيسر وسهولة إن عاش بين عائلة عربية، والعكس صحيح أيضاً.
– إنّ اللغة – أي لغة كانت – تحوي نظاماً وقالباً معقداً (يشترك فيه كل البشر) تؤدي معه اللغة غرضها المنشود منها بعد تعبئته بالمفردات، سواء كانت عربية أو فارسية أو عبرية أو إنجليزية أو ألمانية أو إسبانية أو صينية أو غيرها من سائر اللغات الموجودة في عالمنا اليوم أو التي تستحدث مستقبلاً، ولا ميزة للغة على أخرى من هذه الناحية وبالتالي لا معنى للتفاضل بين اللغات، تماماً كحال جهاز حاسوب متوفر على نظام تشغيل متطور ويمكنك تشغيله بأي لغة شئت.
– جميع اللغات الحيّة تخضع لحتمية التطور والتغير بمرور الزمن وهو أمر محسوس ومشاهد من قبل الجميع، ولا يشذ عن هذه الحتمية أي لغة من اللغات، يكفي أن نعرف أنّ قواميس لغات العالم اليوم تضيف كلمات جديدة إلى مفرداتها باستمرار. فمثلاً: ظهرت كلمة “سيلفي” لأول مرة عام 2002 م على يد شاب أسترالي في أحد مواقع التواصل، وكتب معلّقاً على صورته التي لم يبدو فيها جميلاً بما يكفي: “it was a selfie”، ثم انتشرت بقوة، فأضافها قاموس “أكسفورد” – أهم قاموس لغوي إنجليزي على مستوى العالم – إلى مصطلحاته، وعرّفها بأنها: “صورة يلتقطها الشخص لنفسه بنفسه”.
القسم الثاني
وبخصوص اللغة العربية، فما يُدّعى في تفضيلها على سائر اللغات وبالتالي قدرتها على حمل الإعجاز اللفظي للقرآن دون سواها، كلام غير علمي تماماً، وإلا فما هو المعيار الحقيقي للتفاضل بين اللغات، وهل حسمت علوم اللغة القديمة أو الحديثة هذا الأمر؟ هل حدّدت مراكز البحث في جامعات العالم العريقة في بحوثها ودراستها الرصينة والمعتمدة ميزان التفاضل بين اللغات؟!
في الحقيقة، لم يحصل شيء من هذا القبيل، وكل ما هو موجود ظنون واستحسانات نسبية في أحسن حالاتها، فالعربي – على سبيل المثال – الذي يعتبر كثرة الجذور والمرادفات ووجوه الاستعارة في لغته – قياساً بباقي اللغات – ميزة يعتبرها غيره إسرافاً لا طائل من ورائه، ولا أقل فهي قضايا غير محسوم التفضيل على أساسها بنحو ثابت وقطعي، بل الثابت علمياً – وفق بحوث ودراسات علم اللغة الحديث كما أشرنا – أن لا مبرر ولا غرض علمي حقيقي يدعو للتفاضل بين اللغات مطلقاً؛ لأن اللغة – أي لغة كانت – ما هي إلا ظاهرة إنسانية واجتماعية الغرض منها التفاهم والتواصل بين المجتمع اللغوي الإنساني وهو أمر حاصل ويحصل بجميع اللغات كما هو ملاحظ.
وأكثر من هذا، فمسألة “التفاضل بين اللغات” أمر لا تنفيه بحوث ودراسات علم اللغة الحديث فحسب، ولكن تنفيه الدراسات اللغوية القديمة أيضاً، وعلى سبيل المثال يقول ابن حزم: (وقد توهم قوم في لغتهم أنها أفضل اللغات. وهذا لا معنى له لأن وجوه الفضل معروفة، وإنما هي بعمل أو اختصاص ولا عمل للغة، ولا جاء نص في تفضيل لغة على لغة، وقد قال تعالى: “وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم” وقال تعالى: “فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون”. فأخبر تعالى أنه لم ينزل القرآن بلغة العرب إلا ليفهم ذلك قومه عليه السلام لا لغير ذلك، وقد غلط في ذلك جالينوس فقال: إن لغة اليونانيين أفضل اللغات لان سائر اللغات إنما هي تشبه إما نباح الكلاب أو نقيق الضفادع. قال علي: وهذا جهل شديد لان كل سامع لغة ليست لغته ولا يفهمها، فهي عنده في النصاب الذي ذكره جالينوس ولا فرق. وقد قال قوم: العربية أفضل اللغات لأنه بها كلام الله تعالى. قال علي: وهذا لا معنى له، لان الله عز وجل قد أخبرنا أنه لم يرسل رسولا إلا بلسان قومه. وقال تعالى: “إني إذا لفي ضلال مبين” وقال تعالى: “وإنه لفي زبر الأولين” فبكل لغة قد نزل كلام الله تعالى ووحيه. وقد أنزل التوراة والإنجيل والزبور، وكلم موسى عليه السلام بالعبرانية، وأنزل الصحف على إبراهيم عليه السلام بالسريانية، فتساوت اللغات في هذا تساوياً واحداً) ابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام: 1/32.
أما الآيات القرآنية التي ذكرت أنّ القرآن بـ “لسان عربي”، فهي ليست بصدد تفضيل اللغة العربية – في حد نفسها كلغة – على غيرها بقدر ما كانت لبيان أنّ القرآن نزل بلغة العرب (المواجهين الأوائل له) رجاء أن يعقلونه، مع اعترافنا في ذات الوقت برقي لغة القرآن الكريم، لكن اعترافنا برقي وعظمة لغته شيء والقول بأنّ إعجازه لغوي شيء آخر تماماً.
وأيضاً: ينبغي أن نعرف جيداً أنّ اللغة العربية لم تكن بصورة واحدة منذ نشأتها والتحدث بها، وإنما خضعت للتطور والتغير بمرور الزمن حتى بلغت مرحلة الانفصال بينها وبين العربية الجنوبية وتميزها عنها، وهي في ذلك كسائر اللغات الأخرى فيما طرأ ويطرأ عليها من تطور وتبدل، وأكيد أنّ الحال نفسه نراه لو عملنا مقارنة بين اللغة العربية في زمن قريش والعربية في أزمنتنا هذه، يكفي أن نعرف أننا لا نعود إلى الفصحى الآن إلا حين كتابة مقال علمي أو كتاب وما شابه، فهي تكاد تكون لغة علمية فقط، أما فيما عدا ذلك فإننا نتكلم عربيتنا ولهجتنا التي اعتدنا عليها، والتي لا يجمعها مع العربية الأم في كثير من الأحيان سوى الاسم فقط، وأعتقد أنّ رفض ذلك مجرد مكابرة وعناد لا أكثر، بل إنّ العربية الفصحى في زمننا تختلف (صياغة وأسلوباً ومرونة ومفردات) عن العربية الفصحى في زمن النص بل وما بعده، وعلى سبيل المثال: يمكنك أن تمسك كتاباً ألّف قبل عدة قرون وكتاباً مؤلف في عصرنا الحالي وتلاحظ الفرق الكبير بينهما بنفسك.
بالتالي، فميزان التفاضل بين اللغات لو تنزلنا لإجرائه – وهو غير صحيح طبعاً؛ لأنه أساساً غير متوفر بنحو علمي صحيح، كما أنه مرفوض من قبل علم اللغة الحديث والقديم كما عرفنا – فلا يكون إلا أمر نسبي في أحسن حالاته بعد عدم ثبات اللغة على خط بياني واحد، والنتيجة التي ننتهي لها: لا معنى لما يقال بأنّ إعجاز القرآن لغوي لقدرة اللغة العربية – دون غيرها – على حمله.