(12)
القسم الأول:
2- حتى تصح محاكمة شيء ما ووصفه بالصحة أو الخطأ لابد من وجود معيار واضح تتم المحاكمة على ضوئه، فمثلاً: أنت لا تستطيع أن تحكم على فعل يصدر من سائق سيارة بالمخالفة أو عدمها إلا بعد وجود معيار وقانون مروري يقاس به فعل السائق، من ثمَّ تحكم عليه بالصحة إن طابقه أو عدمها إن خالفه. كذا في الأمور العقلية فأنت تصف عملية الجمع الرياضية “1+1=3” بالخطأ لوجود قانون بديهي رياضي لديك يقول: “1+1=2”.
وفي مسألتنا: هل القواعد النحوية فعلاً تصلح أن تكون قانوناً ومعياراً يوزن به الكلام العربي عموماً بحيث يوصف غير الملتزم به مخالفاً ومرتكباً لخطأ تُنفى معه أحقيّته وكل خير ورد فيه لمجرد المخالفة!
الحقيقة، إنّ هذا غير صحيح إطلاقاً؛ لأسباب كثيرة:
أولاً: تقدّم في إجابة الإشكال السابق بيان أنّ اللغة ما هي إلا نتاج أرضي خاضع للتطور والتبدل بمرور الزمن، ومن كان هذا حاله “أي: لا ثبات فيه” لا يصح بحال اعتباره ميزاناً لإثبات صحة أو أحقيّة شيء ما ولا إثبات خطئه وبطلانه.
ثانياً: بخصوص اللغة العربية، فإنّ قواعد النحو فيها وضعت في زمن متأخر بعقود عديدة عن زمن نزول القرآن، فضلاً عن زمن نشوئها والمراحل التي طوتها أثناء تطورها التدريجي واستعمالها كلغة للتفاهم والتواصل بين مجموعة من البشر “العرب” في حقب زمنية متعاقبة، وبالطبع كان العرب في جميع العصور يتكلّمون عربيّتهم وفق سليقتهم وأسلوبهم في التواصل والتفاهم فيما بينهم من دون أن يكون هناك شيء اسمه “قواعد النحو”، والواضح أنهم لم يكونوا خاضعين لطريقة واحدة في التعامل مع المفردات من ناحية نحوية أو صرفية، ولهذا أنشأ النحاة مصطلح “اللغات الشاذة”.
بالتالي، فإنّ عدم التزام كلام عربي متقدّم – كالقرآن الكريم – بقواعد نحوية موضوعة في زمن متأخر لا يعتبر بحال نقضاً وطعناً عليه بقدر ما هو طعن على القاعدة النحوية أو الصرفية نفسها؛ لأنه ببساطة يكشف عن خطئها وعدم استيعاب واضعيها لما هو معروف ومستعمل من كلام العرب.
يقول السيد الخوئي: (إنّ القرآن نزل في زمان لم يكن فيه للقواعد العربية عين ولا أثر، وإنما أخذت هذه القواعد – بعد ذلك – من استقراء كلمات العرب البلغاء، وتتبع تراكيبها. والقرآن لو لم يكن وحياً إلهياً – كما يزعم الخصم – فلا ريب في أنه كلام عربي بليغ، فيكون أحد المصادر للقواعد العربية، ولا يكون القرآن أقل مرتبة من كلام البلغاء الآخرين المعاصرين لنبي الإسلام. ومعنى هذا: أن القاعدة العربية المستحدثة إذا خالفت القرآن كان هذا نقضاً على تلك القاعدة، لا نقداً على ما استعمله القرآن) البيان: 82.
ويقول السيد محمد الصدر: (أن قواعد النحو لم تكن موجودة على الإطلاق في زمن نزول القرآن الكريم، فضلا عن أن يشعر الناس بأهميتها واحترامها، كما أصبحت عليه الأجيال المتأخرة، جرّاء التركيز الشديد على القواعد العربية. وإنما كان العرب إلى ذلك الحين يتكلمون على السجية، بما ورد على لسانهم من حديث. ومن هنا تشعبت اللغات. ورويت هناك كثيرا من مخالفة القواعد النحوية على ألسنتهم، حاول النحاة بعد ذلك توجيهها مهما أمكن أو جعلها استثناء من القاعدة، وزعموا أن النص العربي لا يخطئ) ما وراء الفقه: 1/296.
فبالرغم من الاختلاف في اسم الواضع الأول لقواعد النحو، لكن ليس هناك اختلاف بين المؤرخين والنحويين في أنّ المدرسة البصرية كانت هي السبّاقة في وضعه ثم لحقت بها باقي مدارس النحو الأخرى مثل الكوفية والبغدادية والأندلسية والمصرية، ومن روّاد المدرسة البصرية: عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي (ت: 117 ه) وأبو عمرو بن العلاء (ت: 154 ه) والخليل بن أحمد (ت: 170 ه) وسيبويه (ت: 180 ه) والأخفش (ت: 177 ه) والمبرد (ت: 285 ه)، ويعد مثل الكسائي (ت: 189 ه) والفراء (ت: 207 ه) من رواد المدرسة الكوفية، في حين يعتبر مثل الزجاجي (ت: 340 ه) وأبي علي الفارسي (ت: 377 ه) وابن جني (ت: 392 ه) من رواد المدرسة البغدادية، وباقي المدراس النحوية لها روّاد بارزون أيضاً.
بحسب الرأي السائد بين النحاة، فإنّ الحضرمي وآخرين معه “من البصريين” هم أول من بدأ عملية تأسيس القواعد والتأصيل لها بحدود ما، ثم أكمل الفراهيدي وسيبويه وآخرون مشوار تشييد القواعد النحوية، وجميعهم – كما لاحظنا – تفصلهم عن تاريخ نزول القرآن ما يزيد على قرن من الزمن، فسيبويه – مثلاً – تفصله مدة تزيد عن 150 عاماً. (انظر: مقال منشور في مجلة جيل الدراسات الأدبية والفكرية العدد 63 الصفحة 127، د. محمد الطيب البشير، د. سليمان إبراهيم عبد الله، جامعة الخرطوم).
القسم الثاني:
ثالثاً: إنّ واضعي قواعد النحو اعتمدوا في الوضع مراجع وأصول أساسية ثلاثة يستشهدون بها على قواعدهم بمعنى أنها المادة التي كانوا يعتمدون عليها أثناء التقعيد، كان القرآن الكريم أحدها، إضافة إلى مرجعين آخرين، أحدهما: الشعر الفصيح سواء كان صاحبه جاهلي مثل أمرئ القيس، أو مخضرم شهد الجاهلية والإسلام كحسان بن ثابت، أو متقدم في صدر الإسلام كالفرزدق وجرير، ومن النحويين من يستشهد بغيرهم من المحدثين “المولّدين” أيضاً، وثانيهما: كلام بعض القبائل كقيس وأسد وهذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين. (أنظر: د. قطب مصطفى سانو، القواعد النحوية في ميزان الشرع والعقل – الفصل الخامس).
استبعد كبار نحاة “البصريين” الحديث النبوي عن أن يكون أصلاً ومرجعاً في الاستشهاد بحجة أنه يُروى أحياناً بالمعنى، ومثلها المدرسة الكوفية، وأيد د. قطب الثورة التجديدية التي قادتها المدرستان الأندلسية والمصرية على النهج المتشدد للمدرستين البصرية والكوفية. (أنظر: المصدر السابق – الفصل السادس والسابع).
لم يكن تتبع كلام العرب عند عملية وضع القواعد النحوية تاماً، وهذا يعني أنّ الاستقراء كان ظنياً ناقصاً، وهم – أي النحاة – يعترفون بذلك، ولهذا لما واجه سلف الحضرمي “عيسى بن عمر” واحداً من العرب الاقحاح فسأله عن الذي وضعه من قواعد قائلاً: أخبرني عن هذا الذي وضعت يدخل فيه كلام العرب كله؟ قال عيسى: لا، فقال العربي: فمن تكلم بخلافك واحتذى ما كانت العرب تتكلم به، أتراه مخطئاً؟ قال: لا. فقال العربي: فما ينفع كتابك؟ (أنظر: السيرافي، أخبار النحويين البصريين: 26).
لم يأخذ النحاة اللغة عن حضري قط، ولا عن سكان البراري والأطراف التي كان أهلها يجاورون الأمم الأخرى بحجة الاختلاط والتأثر بهم وبالتالي لم تكن عربيتهم نقية بحسب النحاة، فلم يأخذوا عن قبائل أهل اليمن ولا الطائف ولا اليمامة ولا حواضر الحجاز ولا ثقيف ولا أزد ولا غسان ولا قضاعة ولا القبائل التي كانت تجاور مصر والشام وغيرها، (أنظر: الفارابي، الألفاظ والحروف: 146 – 147)، حتى إنّ ابن جني في كتابه “الخصائص” عقد باباً أسماه “باب في ترك الأخذ عن أهل المَدَر وجواز الأخذ من أهل الوَبَر ” أي جواز الأخذ عن البدو دون الحضر، والسبب بنظره – كما غيره – أنّ الحضر شاب لغتهم فساد وخطل بسبب الاختلاط بغير العرب.
مع أنّ الجميع يعرف أنّ قريشاً ومكة عموماً – التي يعتبر النحاة لهجتها أفصح لهجات العرب – مدينة عامرة وأهلها حضر لا بدو، وأيضاً كانت تشتهر بالحركة التجارية والاختلاط بغير العرب حاصل فيها على قدم وساق، وبالتالي فالسبب الذي دعاهم لرفض الأخذ عن أكثر القبائل العربية موجود فيها أيضاً.
أيضاً: لا يجوز عند النحاة الاحتجاج بشعر المحدثين “المولّدين” الذين تبتدئ طبقتهم ببشار بن برد (ت: 167 ه)، لكن بعضهم جوّز الاستشهاد بشعره كما فعل سيبويه، وجوّز أبو علي الفارسي الاستشهاد بشعر أبي تمام، بل ذهب بعضهم إلى جواز الاستشهاد بكل من يوثق به من المحدثين، ولم يسمح به نحويون آخرون بحجة وقوع اللحن من المحدثين، فالمسألة – كما نرى – اجتهادية ظنية وخاضعة لاختلاف القناعات عند النحاة.
فمما لا شك فيه أنّ عملية ترجيح بعض اللغات “اللهجات” على أخرى أثناء وضع النحاة لقواعدهم لم تخلُ من تدخل الأذواق والآراء الشخصية كشأن أي عملية اجتهادية واستنباطية تحصل في مختلف العلوم، وبحسب د. محمد حسن عبد العزيز لم يكن النحاة منصفين حين حكّموا أهواءهم وأذواقهم في إعظام الكلام العربي القديم ونصرته وفي التهوين من شأن الحديث وإنكاره وكان عليهم أن يضعوا معايير علمية موضوعية يحكمون بها على القديم والحديث على حد سواء. (أنظر: القياس في اللغة العربية: 120).
وأيضاً: الاختلاف بين المدراس النحوية عموماً كبير، بل يضرب بأطنابه حتى بين أشهر مدرستين نحويتين “البصرة والكوفة”، ابتداءً بالمادة التي يُستشهد بها في التأسيس للقواعد ويمتد إلى المسائل ذات الصلة بالمنهج وما ينبغي مراعاته في البحث النحوي مروراً بالموقف تجاه القراءات المتعددة للقرآن الكريم والحديث النبوي والشعر وغير ذلك من مسائل وقع الخلاف فيها، وهو خلاف لم تكن السياسة والجغرافيا وحب إثبات الذات بمعزل عنه باعتراف النحاة والكثير من الدراسات التي عقدت بهذا الصدد. (أنظر: عبد النبي محمد مصطفى، اختلاف النحاة ثماره وآثاره في الدرس النحوي، رسالة ماجستير).
القسم الثالث:
يرى كتّاب آخرون أنّ قهراً مورس تجاه اللغة العربية من قبل النحاة الأوائل بسبب التحديد الزمني الموضوع من قبلهم كزمن تصلح فيه اللغة أن تكون شاهداً على قاعدة نحوية، ما أدى إلى إهمال ثروة لفظية واستعمالات نحوية بحجة أنها لا يحتج بها. (أنظر: حلمي خليل، مقدمة لدراسة علم اللغة: 114).
ونحن يمكننا تأكيد مثل هذا القهر والتعصب النحوي حتى في بيان التبريرات التي طرحها النحاة لدفع مخالفة الآيات لقواعدهم، فتراهم مستعدين لفرض أي شيء وإن كان متكلفاً وبعيداً من أجل إثبات سلامة القاعدة النحوية، بل إنّ بعضهم كان يصرّ على قراءة الآية وفق القاعدة النحوية بالرغم من أنّ القراءة المشهورة تخالفها، هذا فضلاً عن وصفهم الكثير من القراءات القرآنية بالغلط والشذوذ. بل وكانوا يريدون فرضها – أعني قواعد النحو – على الشعر الفصيح أيضاً، وفي هذا الصدد كثيراً ما يطرح اعتراض الحضرمي على الفرزدق “الشاعر المعروف” في قوله: “وعضّ زمَان يَا ابْن مَرْوَان لم يدعْ … من المَال إلاّ مسحتاً أَو مجلّفُ” إذ قال له: بِمَ رفعت أَو مجلف؟ فأجابه الفرزدق: “بما يسوءك وينوءك، علينا أن نقول وعليكم أن تتأولوا”. (أنظر: البغدادي، خزانة الأدب: 5/145).
ومن الطرائف التي شابت عملية جمع مادة القواعد النحوية – بحسب بعض الباحثين – أنّ بعض البدو كان يشترط مبلغاً من المال مقابل أن يتحدث بكلمات معدودة أمام النحاة “جباة القواعد”، بل لم يكن بعضهم أميناً في نقل الكلام لهم.
جدير بالذكر، إنّ بعض كبار النحاة لم يكن يراعي قواعد النحو أثناء كلامه، فيروى أنّ الفراء – وهو زعيم المدرسة الكوفية يومها – دخل على هارون العباسي فتكلم بكلام لحن فيه مرات، فقال جعفر بن يحيى البرمكي لهارون: إنه يلحن، فقال هارون للفراء: أ تلحن؟ قال الفراء: يا أمير المؤمنين إنّ طباع أهل البدو الاعراب، وطباع أهل الحضر اللّحن. فإذا تحفّظتُ لم ألحن، وإذا رجعت إلى الطبع لحنت. (أنظر: أبو بكر الاندلسي، طبقات النحويين واللغويين – الطبقة الثالثة: 131).
من جهته، يرى أنيس فريحة أنّ (أكثر قواعد النحو والصرف في كثير من اللغات قواعد كتابة لا قواعد نطق وفهم وإفهام، وأن اللغة متطورة لا تعرف الجمود، وهذا ما فات الصرفيين القدماء أن يفهموه)، ويعتبر “العاميّة” تطوراً وتقدماً في اللغة. (نحو عربية ميسرة: 79، 102).
ما تفعله الشعوب التي تنطق العربية اليوم يؤكد ما قاله فريحة، فنحن في العراق مثلاً – وكذا سائر البلاد العربية – لا يكاد أحدنا يستعمل أي قاعدة نحوية في عملية التواصل والتفاهم مع الآخرين، وإنما يتم التفاهم من خلال ما ينطق به كل قائل باللغة الدارجة في المجتمع وبيانه لمراده وما يعنيه دون أي مراعاة تذكر لقاعدة نحوية إطلاقاً، وفي حال الالتباس أو الغموض مثلاً في كلام شخص ما يتم سؤاله عما يعنيه فيقوم بتوضيح قصده ومراده. وأمام الجميع منصّات وسائل التواصل الاجتماعي التي يرتادها ملايين العرب ويتواصلون من خلالها فيما بينهم، فلو كانت القواعد النحوية هي السبب بالتفهيم والإفهام فكيف يحصل التواصل والتفاهم بينهم مع أنّ نسبة من يستعملون القواعد في حديثهم وكتاباتهم إلى من يهملها ضئيلة بل ضئيلة جداً!
مسألة أن يكون الناطق بالكلام هو الأولى بل المعني بتوضيح مراده تكفي لدفع ما زعمه النحاة من أنّ الحفاظ على القرآن الكريم كان غرضهم الأساس الذي دعاهم إلى تدوين قواعد النحو، فها هم وضعوها حتى أوصلها التالون بعدهم حد التقديس، لكن النتيجة أنها لم تكن سبباً للطعن على القرآن فحسب ولكن كانت سبباً أيضاً في تعدد الآراء وتشتتها في فهم القرآن واستنباط العقائد والأحكام منه ونشوء المذاهب والفرق، وكمثال: من يوجب غسل القدمين في الوضوء ومن يوجب مسحهما كل منهما يستند إلى قاعدة نحوية في فهم نفس الآية، ولم يكن لمثل هذا الاختلاف وجود لو أنّ المسلمين كلّفوا أنفسهم بسؤال الناطق بالقرآن حتى يبيّن المقصود الحقيقي من الآية، أعني الرسول (ص) ومن يقوم مقامه من أوصيائه، فلا يمكن – عقلاً ونقلاً – قبول أنه ارتحل إلى ربه ولم يجعل بين الناس من يقوم مقامه في بيان مراده وكل ما يستجد في دين الله، ولهذا تواترت وصيته للمسلمين أنه ترك فيهم الثقلين كتاب الله وعترته، ففي كل زمان يوجد رجل من آل محمد (ص) هو المعني ببيان مقصود القرآن الذي نطق به رسول الله محمد (ص).
والنتيجة التي ننتهي لها بعد هذا العرض الموجز:
إنّ قواعد النحو جهد بشري ناقص؛ لأنها وضعت أساساً بدلالة الظنون والاستقراء الناقص، ولم تؤسَّس بدلالة البراهين القطعية واليقينية، ولهذا تعددت آراء النحاة واختلفت في المسألة الواحدة فضلاً عن اختلاف المدارس النحوية الكبرى كما رأينا، أضف إليه: إنّ خضوع اللغة لحتمية التطور التي تحكم الكون برمّته بما في ذلك الإنسان ولغته تجعل من غير المجدي تماماً وضع قواعد نحوية من خلال حصر مرجعها اللغوي بمقطع زمني محدد وبأقلية عربية منتخبة ثم اعتبارها لغة قياسية تحاكم به اللغة العربية السابقة عليها واللاحقة لها، أعتقد أنّ مثل هذا التصرّف أقرب للعبث منه إلى الجهد العلمي المحمود، فضلاً عن أن تكون قواعد النحو معياراً يُحاكم به كتاب إلهي كالقرآن الكريم.