(14)
2- لا شك أنّ عملية استقرار رسم الحروف العربية بصفتها المعهودة لدينا لم تكن إلا بعد سلسلة طويلة من السير التطوري لنمط معين من خطوط الكتابة التي ابتدأت باختراع نفس الكتابة “بالخط المسماري” في بلاد ما بين النهرين، ثم تدريجياً تنوّعت الخطوط وتشعبت بشكل تصاعدي بتطور الإنسان نفسه.
أما الأصل الذي انحدرت منه حروف لغتنا العربية من حيث الرسم، وهي مسألة اختلف فيها العلماء والباحثون، فسواء كان أصلها يمني أي “خط المسند – الحميري “، أو كانت نتاجاً تطورياً للخط النبطي، أو كان أصلها شيئاً ثالثاً، فالمؤكد في كل الحالات أنها لم تكن لتظهر فجأة بالشكل الذي نعرفه اليوم إلا بعد مراحل وحقب عديدة مرت بها كشأن أي نتاج بشري أرضي.
وبخصوص القرآن الكريم، فلا شك أنّ أول من نطق به لفظاً هو رسول الله محمد (ص) بعد كونه رسولاً إلهياً والقرآن مُوحى له بالأصل، ولم يكن قد كتب بيده حرفاً منه كما هو واضح من سيرته، بل وشهد به القرآن أيضاً: “وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ” العنكبوت: 48، فقد كان (ص) يتلو القرآن ويقوم أكثر من كاتب من المسلمين بالتدوين، وليس الأمر منحصراً على تدوين الوحي وإنما يشمل كتابة الرسائل وبنود الصلح والمعاهدات وغيرها، بغض النظر عن اختلاف أصحاب السير في عدد من كتب الوحي وغير الوحي. (انظر: الحلبي في “السيرة الحلبية” حيث أوصلهم إلى 26كاتباً، وبعضهم أوصلهم إلى أقل أو أكثر من ذلك).
أما رسم حروف القرآن بالنحو المتداول لاحقاً بين المسلمين وصولاً لعصرنا الحالي فهو أمر حدث في عهد عثمان بن عفان في عملية تدوين القرآن وجمع المصاحف وتوحيدها بنسخة رسمية واحدة في الحادثة المعروفة تاريخياً، وسيأتي الإشارة إلى بعض تفاصيلها في الإشكال القادم “إشكال جمع القرآن”، وبالتالي فإن كان هناك خطأ إملائي في رسم حروف بعض الكلمات فهو يُحسب على القائمين بالعمل أو على بعض المدوّنين الذين سبقوهم واعتمد الرسم الموجود في نسخهم حرفياً في المصحف العثماني، وليس له علاقة بالقرآن كحقيقة نازلة من عالم أعلى ولا بالقرآن كألفاظ نطق بها رسول الله (ص) في هذا العالم.
وكمثال: ذكر البيهقي حادثة جرت بين أعضاء اللجنة التي شكّلها عثمان في جمعه، فقال: “قال ابن شهاب: واختلفوا يومئذ في (التابوت)، فقال زيد: (التابوة)، وقال سعيد بن العاص وابن الزبير: (التابوت)، فرفعوا اختلافهم إلى عثمان، فقال: اكتبوها (التابوت) فإنها بلسانهم” دلائل النبوة: 7/151.
وليست مسألة رسم حروف القرآن بالنحو الذي نراه اليوم وحدها حدثت في زمن متأخر عن نزول القرآن، وإنما تشكيله بالحركات وتنقيطه أيضاً كذلك، فأكثر الباحثين يرون أنّ تنقيط القرآن – وكذلك تقسيمه إلى أجزاء وأحزاب – تم في عهد الحاكم الأموي عبد الملك بن مروان على يد بعض النحاة والقرّاء، ونفّذ في العراق تحت إشراف الحجاج بن يوسف (ت: 95 ه). أما تحريكه بالعلامات فقد تم على يد النحوي البصري الخليل بن أحمد (ت: 170 ه)، فجعل للفتحة ألفاً صغيرة توضع فوق الحرف وجعل للكسرة رأس ياء صغيرة تحته وللضمة واواً صغيرة فوقه وكرّر الحرف الصغير عند التنوين ووضع للهمزة رأس عين ولألف الوصل رأس ص فوقها وللمد ميم صغيرة متصلة بجزء من الدال، ثم أكمل المشوار تلامذته حتى رست أخيراً بالشكل الذي نراه اليوم. (أنظر: أحمد قبش، الإملاء العربي: 6).
قال السيوطي: (اختلف في نقط المصحف وشكله، ويقال: أول من فعل ذلك أبو الأسود الدؤلي بأمر عبد الملك بن مروان، وقيل الحسن البصري ويحيى بن يعمر، وقيل: نصر بن عاصم، وأول من وضع الهمزة والتشديد والروم والإشمام الخليل) أنظر: الإتقان في علوم القرآن: 2/171.
يقول د. جواد علي: (أغلب روايات أهل الأخبار أن الخط العربي الأول لم يكن مشكلاً، وأن الشكل إنما وجد في الإسلام، وكان موجده أبو الأسود الدؤلي، فاستعمل النقط بدل الحركات، ثم أبدل الخليل بن أحمد الفراهيدي النقط برموز أخرى) أنظر: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام: 8/190.
وهكذا نرى أنّ مسألة استقرار إملاء الخط العربي وبلوغه مرحلة “القواعد القياسية” التي نراها حالياً لم تكن إلا بعد طي مراحل عديدة متأخرة عن نزول القرآن بفترة طويلة، فقد كانت قواعده في البداية مبثوثة في بعض كتب النحو واللغة مثل “أدب الكاتب” لابن قتيبة (ت: 276 ه) و “الجُمَل” للزجاجي (ت: 340 ه)، ثم أفردت بكتب مثل “أدب الكتّاب” لأبي بكر الصولي (ت: 336 ه) و”عمدة الكتّاب” لأبي جعفر النحاس (ت: 338 ه) وغيرهم.
وإذا كان الحال كذلك، فإنّ محاكمة القرآن بقواعد إملائية – تحكم رسم وتشكيل وتنقيط الخط العربي – لم تكتمل إلا في وقت متأخر عن نزوله هي إلى العبث أقرب منها للنقد العلمي الذي يستحق أن يُعبأ به.
ولا يفوتني أن أشير هنا إلى أنّ واحدة من الأسباب التي ساهمت بالإشكال – مورد البحث – أكثر من مساهمتها بدفعه هو ما تكلّفه بعض علماء المسلمين من ادعاء احتواء الرسم العثماني على أسرار إلهية على حد زعمه، فمثلاً يقول الزرقاني: (وكما أن نظم القرآن معجز فرسمه أيضاً معجز وكيف تهتدي العقول إلى سر زيادة الألف في مائة دون فئة وإلى سر زيادة الياء في بأييد وبأبيكم أم كيف تتوصل إلى سر زيادة الألف في سعوا بالحج ونقصانها من سعو بسبأ وإلى سر زيادتها في عتوا حيث كان ونقصانها من عتو في الفرقان وإلى سر زيادتها في آمنوا وإسقاطها من باؤ جاؤ تبوؤ فاؤ بالبقرة والى سر زيادتها في يعفوا الذي ونقصانها من يعفو عنهم في النساء أم كيف تبلغ العقول إلى وجه حذف بعض أحرف من كلمات متشابهة دون بعض كحذف الألف من قرءانا بيوسف والزخرف وإثباتها في سائر المواضع وإثبات الألف بعد واو سموات في فصلت وحذفها من غيرها وإثبات الألف في الميعاد مطلقا وحذفها من الموضع الذي في الأنفال وإثبات الألف في سراجا حيثما وقع وحذفه من موضع الفرقان وكيف تتوصل إلى فتح بعض التاءات وربطها في بعض فكل ذلك لأسرار إلهية وأغراض نبوية وإنما خفيت على الناس لأنها أسرار باطنية لا تدرك إلا بالفتح الرباني) مناهل العرفان: 1/83.