(15)
إشكال 4: يرى المشكّكون أنّ طريقة جمع القرآن – بحسب ما وردت في كتب المسلمين – لا تنسجم مع ما يعتقد به المسلمون من كونه كتاباً إلهياً مقدّساً.
الجواب:
قبل الإجابة، ولكي يتوضح لنا السبب الذي دعاهم للإشكال من هذه الناحية، ينبغي أن نعرض – بإيجاز – بعض ما يتعلق بمسألة “جمع القرآن” بحسب الوارد في روايات المسلمين وآراء بعض العلماء، وهذه جملة من الملاحظات:
أولاً: المعتقد السني الرسمي قائم على أنّ النبي (ص) ارتحل إلى ربّه والقرآن غير مجموع، بل كان موزّعاً على الرقاع والأكتاف وجريد النخل ونحو ذلك، وبعض العلماء قَبِل أن يكون هناك جمع حصل بالفعل في زمن النبي (ص) لكن فسّره بالحفظ في صدور الرجال، أو بمعنى أنّ النبي كان يملي على الكتبة الآيات. (انظر: الزركشي، البرهان في علوم القرآن: 1/234؛ المقريزي، إمتاع الأسماع: 4/239). وأيضاً: رووا أنّ هناك صحابة قاموا بجمع القرآن فعلاً في حياة النبي (ص)، ومنهم: أبيّ بن كعب، أبو زيد، زيد بن ثابت، عبد الله بن مسعود. (أنظر: صحيح البخاري: 4/229 – باب مناقب الأنصار).
والملاحظ أنّ من فسّر جمع هؤلاء للقرآن بمعنى “الحفظ” لم يقدّم دليلاً واضحاً على قوله، خصوصاً بعد اعتراف بعض الجامعين بأنّ جمعه كان تأليفاً وليس حفظاً، قال زيد بن ثابت: “كنّا عند رسول الله (ص) نؤلّف القرآن من الرقاع” مسند أحمد بن حنبل: 5/185؛ سنن الترمذي: 5/390.
أما لماذا لم يجمع النبي (ص) القرآن بنظرهم، فلاعتبارات كثيرة كما يقولون، منها: لم تكن هناك دواعٍ لجمعه أصلاً، ومنها: إنه (ص) كان مشغولاً بنزول الوحي واحتمال وقوع النسخ في بعض الآيات فلو جمع القرآن في مصحف واحد لكان عرضة لتغيير المصاحف كلما حصل نسخ. ومنها: إنّ القرآن لم ينزل جملة واحدة وإنما نزل متفرّقاً. (انظر: البيهقي، دلائل النبوة: 7/154؛ السيوطي، الإتقان في علوم القرآن: 1/164؛ الزرقاني، مناهل العرفان: 1/248، وغيرهم).
وهي – كما ترى – اعتبارات اجتهادية ظنية ليس إلا، وفاقدة للدليل القطعي تماماً، ويمكن مناقشتها بسهولة، فمثلاً: كون القرآن نزل متفرّقاً لا يمنع من جمع ما يمكن جمعه من القرآن، والعقل يقول إنّ ما لا يُدرك كله لا يُترك كله. كذلك التبرير الثاني فنحن نلاحظ أنّ القرآن احتوى الناسخ والمنسوخ في آياته وليس بالضرورة أن يُمحى المنسوخ من القرآن بالمرّة كما هم فهموا. أما نفي وجود الدواعي لجمعه في زمنه (ص) فهو مجرّد تقوّل ورجم بالغيب لا أقل ولا أكثر.
ثانياً: هم لما انتهوا إلى أنّ القرآن لم يُجمع في زمن الرسول (ص)، فأكيد أنهم يعتقدون أنه جُمع بعد رحيله، ولديهم أكثر من توجّه في هذا الصدد:
– فمرّة رووا أنّ أبا بكر هو من قام بجمعه (انظر: صحيح البخاري: 6/98 – باب جمع القرآن)، واختلفوا في معنى “الجمع” الذي قام به بين كونه جمعاً للصحف المتوزعة عند المسلمين، أو أنه جمع الصحف الموجودة في بيت الرسول (ص) وربطها بجامع أو خيط (أنظر: الزركشي، البرهان في علوم القرآن: 1/238).
– وأخرى أنّ من قام بالجمع هو عمر بن الخطاب، وأنه أول من جمع مصحفاً بإملاء سعيد بن العاص وكتابة زيد بن ثابت، وأرسل أربع نسخ منه إلى الكوفة والبصرة والشام والحجاز. (أنظر: المقريزي، إمتاع الأسماع: 4/288؛ ابن شيبة، المصنف: 7/184؛ الهندي، كنز العمال: 2/578).
لذا حاول بعضهم أن يصوّر جموعاً ثلاثة حصلت للقرآن بالنحو التالي: الأول في زمن النبي (ص) بمعنى الكتابة على العظام والرقاع ونحوها، والثاني في زمن أبي بكر بمعنى جمعه من الرقاع في صحف، والثالث في زمن عثمان بمعنى نسخ الصحف المذكورة في مصحف وحرق ما عدا ذلك. (أنظر: المقريزي، إمتاع الأسماع: 4/239؛ الزرقاني، مناهل العرفان: 1/238).
ثالثاً: رافقت عملية الجمع أحداث ووقائع كثيرة، منها: أنّ جمع أبي بكر اعتمد على تتبع زيد بن ثابت الرقاع والعسب ونحوها كما روى البخاري في (صحيحه: 6/98 – كتاب فضائل القرآن)، وكذلك شهادة شاهدين (أنظر: الهندي، كنز العمال: 2/574)، كما أنّ شهادة شاهدين هي المنهج المعتمد في جمع عمر بن الخطاب بحسب بعض الروايات (أنظر: السيوطي، الدر المنثور: 3/296). ورووا قوله عن آيتين من سورة براءة: “لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة، فانظروا سورة من القرآن فألحقوها، فألحقت في آخر براءة” (السيوطي، الدر المنثور: 3/296؛ تفسير ابن كثير: 2/406). وأيضاً: رووا عنه وعن غيره آيات ليست موجودة في المصحف اليوم.
أما عثمان بن عفان فقد شكّل لجنة عليا لمتابعة عملية الجمع، وكان منهجه يعتمد على جمع القرآن من كل من سمع من رسول الله (ص) كما صرّح هو بذلك، ورووا عنه أنه اشترط شاهدين أيضاً (أنظر: الهندي، كنز العمال: 2/585؛ السيوطي، الدر المنثور: 3/296)، وأيضاً: اعتمد في جمعه على صحف كانت موجودة عند حفصة، روى أنس: “ان حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وآذربيجان مع أهل العراق فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة فقال حذيفة لعثمان يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى فأرسل عثمان إلى حفصة ان أرسلي الينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك فأرسلت بها حفصة إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحرث بن هشام فنسخوها في المصاحف وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شئ من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة فأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق” صحيح البخاري: 6/99. وليست حفصة وحدها لديها مصحف بل كانت هناك مصاحف لكل من عائشة وأبيّ وابن مسعود وغيرهم.
وهناك تفاصيل أخرى أعرضت عن ذكرها؛ لأن غرضي إلفات نظر القارئ إلى بيان السبب الذي دعا المشككين إلى الاشكال بعدم إلهية القرآن.
إذا اتضح هذا، أعود للإجابة عن الإشكال المطروح، فأقول: ……………. (تابع المقالة رقم 16)