(20)
3- أما ما يدعيه بعض المشككين من أنّ القرآن استعمل عبارات وتراكيب لفظية يعود أصلها لشعراء جاهليين اقتبسها القرآن منهم وضمّنها في آياته، مثل قول: “دنت الساعة وانشق القمر … عن غزال صاد قلبي ونفر”، وقائله – بحسبهم – هو أمرئ القيس، ويعتقدون أنّ القرآن استعمل نفس القول في قوله تعالى: “اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ”، وهذا بنظرهم يؤثر على أحقية القرآن وإعجازه.
فجوابه: إنه طرح لا يمت إلى العلم والمنطق السليم بصلة إطلاقاً؛ إذ لم يثبت بالقطع أنّ البيت لأمرئ القيس ولا هو موجود في ديوان شعره، وعلى فرض ثبوته له فعلاً فهو لا يؤثر على أحقية القرآن وإعجازه أيضاً؛ لأن الإعجاز ليس في لغة القرآن وبلاغته في ألفاظه ونظمه كما توهم المشككون، ولمعرفة القول الفصل في إعجاز القرآن الكريم (أنظر: ملحق أجوبة السيد أحمد الحسن – بحث إعجاز القرآن).
وأيضاً: لا شك أنّ اللغة نتاج تطوري أرضي، واستعمال مفردات أي لغة ليس حكراً على أحد، وبالتالي فعلى فرض أنّ أمرئ القيس – مثلاً – استعمل تركيب “دنت الساعة وانشق القمر” في شعره في معنى يقصده، وأراد متحدث آخر استعمال تركيب لفظي يشبهه لكن بمعنى وقصد آخر، فما هو الضير في ذلك؟ وهل من المنطق العلمي اعتبار مثل هكذا عمل سرقة تقلّل من قدر المتحدث الثاني؟ خصوصاً وأنه لم يستعمله كاستعمال المتحدث الأول حرفياً، ولا أنه قصد به ما قصده المتحدث الأول!
القرآن الكريم – كما بيّن رسول الله وأوصياؤه (ص) – كلام له ظاهر وباطن، فمثلاً قوله تعالى: “اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ” تأويله بحسب بعض الروايات: “خروج القائم” (أنظر: تفسير القمي: 2/340)، أو القيامة بحسب روايات أخرى، وليس شيئاً من شعر أمرئ القيس أو غيره من الجاهليين تؤوّل فيه الساعة أو القمر بالنحو المذكور، بل واضح أنّ الشاعر يقصد ساعة لقاء محبوبته “الغزال الذي صاد قلبه” وأين هذا مما يعنيه القرآن الكريم؟!!
4- بخصوص مشابهة بعض مضامين القرآن – والأديان الإبراهيمية عموماً – لما ورد في نصوص السومريين، فهو أمر مؤكد وثابت في كثير من القضايا كقصة آدم وحواء وقابيل وهابيل وطوفان نوح والخطيئة وجنة عدن وقصة أيوب النبي وقصة المنقذ والمخلص وغير ذلك، وبالتالي فالإصرار على إنكار الشبه – كما يفعله بعض علماء الدين – لا يجدي نفعاً، بل وضرره على الدين أكبر؛ لأنهم بإصرارهم هذا يكونون قد وقفوا بجانب من يعتبر نتاج سومر مجرد أساطير وخرافات أرضية، وهم ما أنكروا المشابهة إلا فراراً من أن يكون أصل الدين أرضي وأساسه أسطوري خرافي، لكن فاتهم أنّ أي باحث ومطلع على نصوص الأديان الإلهية ونصوص السومريين سيتمكن من إثبات المشابهة في موارد كثيرة وليست في مورد أو موردين، ولهذا اعتبر بعض الباحثين أنّ ما كان عند السومريين هو الأصل الذي ترجع له جميع الديانات السماوية اللاحقة.
ونحن نقول: لا يمكن أن يكون غير هذا، ليس لأن الدين الإلهي – والقرآن الكريم تحديداً وحاشاه – مصدره أرضي أسطوري كما يرومه المشككون، وإنما لأن بعض نصوص السومريين في حقيقتها نصوص دينية وتعاليم إلهية وإخبارات غيبية – بعضها مستقبلي – أخبر بها آدم (ع) ومن تلاه من رسل الله كإدريس ونوح وإبراهيم (ع) وبثّوها بين أقوامهم (السومريين وأسلافهم)، وبالتأكيد سنجد لها شبهاً بما سينطق به لاحقاً موسى وعيسى ومحمد (صلوات الله عليهم)؛ لأنهم جميعاً أنبياء الله وينهلون من مصدر واحد. نعم، قد يكون التحريف طال بعض النصوص والمعتقدات السومرية، حالها في ذلك حال معتقدات جميع الأديان اللاحقة ونصوصها، بل هذا هو الأكيد خصوصاً في مثل حالة السومريين نتيجة تباعد الزمان بينهم وبين سلفهم الذين كانوا يتداولون القصص والتعاليم التي رواها الرسل شفاهة ولم تكن الكتابة قد اكتشفت بعد، ولما اكتشفت دونت تلك التعاليم بعد مضي سنين طويلة عليها، ولكن، كيفما كان، لا يخلو تراثهم من الحقيقة ولا أنّ التحريف طال كل شيء.
السيد أحمد الحسن في مراسيه المختارة في موانئ سومر وآكاد (أنظر: وهم الإلحاد – الفصل الخامس) قدّم قراءة علمية جديدة منصفة لنتاج حضارة سومر على المستوى الثقافي الديني والإنساني عموماً، وبحث فيه وفي قيمته الدلالية والمعرفية، وبدل أن يمنح المشككين فرصة للطعن بالدين الإلهي قلب الطاولة عليهم وتساءل في خاتمة بحثه قائلاً: (الآن، يحق لنا أن نقول: إنه لا يوجد عاقل يقول إنّ كل هذا النتاج المتقدم الذي ظهر في صفحة التأريخ بوضوح قبل آلاف السنين جاء من لا شيء، أو تطور عن ثقافة متخلفة بدائية مع أنه لا يوجد أي أثر لسلسلة التطور الثقافي المزعوم، … الآن، يحق لنا أن نتساءل: ألا يدل هذا النتاج على أنّ هذا الكائن الذي أنتجه أو جاء به يتصف بأنه منظَم وبالتالي فإنّ مؤثره يتصف بأنه مُنَظِم وعالِم، وبهذا يثبت وجود الله، …..) أحمد الحسن، وهم الإلحاد – الفصل الخامس.
تأثير أنبياء الله في نتاج سومر انتبه له بعض كبار الآثاريين، يقول د. كريمر: (ومن الجائز جداً أن يكون لإبراهيم وآبائه صلة ما مع الإنتاج الأدبي السومري الذي كان يستنسخ أو يبتدع في مدرسة مدينتهم. وليس من المستحيل أبداً أن يكون هو وأفراد عائلته قد جلبوا معهم بعضاً من التقاليد والمعرفة السومرية إلى فلسطين) كريمر، السومريون: 419.
إذا اتضح هذا، وعرفنا أنّ دين الله واحد وكتابه واحد كما تقدم، فليس غريباً والحال هذه أن يكون هناك تشابه – بل وتطابق أحياناً – بين بعض ما ورد في النصوص السومرية وبين ما هو موجود لدى الأديان الإلهية الثلاثة اليهودية والمسيحية والإسلام.
وبالنسبة إلى القرآن الكريم، فمن ضمن ما ذكره – مثلاً – قصة نوح (ع) والطوفان الذي حصل في زمنه وكانت تعتبر من أنباء الغيب بالنسبة لرسول الله (ص) وقومه: “قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ” هود: 48 – 49. وكذلك قصة مريم (ع): “ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ” آل عمران: 44، وحينئذٍ يحق أن نتساءل:
إنّ الرسول (ص) جاء بكتاب إلهي ونطق به، وكان من ضمن ما نطق به حقائق حصلت قبل آلاف السنين، ولم يُكتشف بعضها علمياً وآثارياً إلا قبل عقود قليلة من الزمان، فكيف علم بها إذن رجل أمّي منقطع إلى ربه في أحد جبال مكة في ظل إمكانات طبع ونشر بدائية وبسيطة جداً؟ كيف عرف بقصص وأحداث بعضها موغل في القدم والحال أنه (ص) لم يمارس القراءة والكتابة في حياته أصلاً، وهذا ثابت في سيرته بعد البعثة وقبلها أيضاً؟
من يقول إنّ هناك جهة أرضية معينة أعلمته وأخبرته وزوّدته بتلك المعلومات، فليقدّم دليله القطعي على ذلك، أما الاكتفاء بالاتهام والإساءة فهو لا ينفي أحقية النبي والقرآن ولا يؤثر على دليل صدقهما بمقدار ذرة، وإنما ينفي الأدب والخلق ويثبت انحطاط وتسافل المسيء نفسه لا أقل ولا أكثر.