(26)
مثال 5: ذكر القرآن زوجيّة الأشياء في أكثر من آية، مثل: “مِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ” الذاريات: 49، “وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ” الرعد: 3، “حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ” هود: 11، وبنظر بعض المشككين فإنّ هذه الآيات تخالف الواقع العلمي في موارد عديدة كالنحل فهو ليس زوجين فقط بل في مملكة النحل يوجد ملكة وذكور وعاملات، وتوجد مخلوقات أحادية الخلايا ليست ذكراً أو أنثى كالبكتريا وبعض الطحالب مثلاً فهي لا تتكاثر بالجنس، وأيضاً توجد كائنات لها أنواع مختلفة وليس نوعين فقط، وكل هذا ثابت علمياً.
الجواب: واضح أنّ المشكك يفهم “الزوجية” بالخصائص التالية:
1- ذات معنى جنسي “ذكر وأنثى”.
2- ذات طابع فردي، أي إنّ المشكك يتعامل مع كل مخلوق بمفرده.
3- ذات جانب مادي فقط.
ولهذا فهو لما يرى أنّ مخلوقاً مادياً يتكاثر بطريقة لا جنسية، أو تكون له أكثر من بيئة يعيش فيها كأن يعيش في بيئة حارة وباردة ومعتدلة مثلاً ونحو ذلك يعتبره خرقاً للزوجية المذكورة في القرآن الكريم.
الحقيقة إنّ هذا الفهم للزوجية خطأ وغير دقيق، وهو حصر لمفهوم عام وواسع ببعض مصاديقه وأمثلته لا أكثر.
مصطلح “الزوج” – لغة – يعني القرين المماثل أو المقابل، ومن ثمَّ تقول عن برتقالتين زوج، وعن الذكر والأنثى زوج، وعن المخلوق أحادي الخلايا ومتعدد الخلايا زوج، وعن المخلوق المادي والمجرّد زوج، وعن السماء والأرض زوج، كما تقول عن الوجود والعدم زوج، وعن النور والظلمة زوج، وعن العلم والجهل زوج، وعن الخير والشر زوج، وعن العدد الزوجي والفردي زوج، وعن الأخلاق الحميدة والذميمة زوج، وعن الحلو والمر زوج، والحر والبرد زوج، ……. وهكذا ممّا لا يحصى من الموجودات المتماثلة أو المتقابلة؛ مادية كانت أو مجرّدة عن المادة.
الزوجية بمعناها العام يقابلها – كمفهوم – “الوتر” الذي لا مصداق خارجي حقيقي له غير الله سبحانه الذي وُصِف في النص الديني بأنه “أحد، فرد، وتر، نور لا ظلمة فيه”. بالتالي، لما يقول القرآن: “مِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ” هو صادق غاية الصدق في بيان هوية عوالم الخلق بكل ما فيها من خلق، فلا وتر ولا فرد حقيقي في عوالم الخلق إطلاقاً، وجميعها – بكل ما فيها – يتصف بالزوجية والتركّب، يكفي أن نعرف أنّ كل موجود – غير الله سبحانه – وجوده حادث “أي لم يكن موجوداً ثم وجد” وطالما أنّ وجوده يسبقه عدم فهو في حقيقته – إذن – وجود مركب “زوج” أي وجود يحمل عدمه معه ومركب من نور وظلمة، ولا يشذ عن هذه الحقيقة شيء في عوالم الخلق كلها.
يقول الإمام الرضا (ع) في وصف الله سبحانه: (….. موجود لا بعد عدم، … بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له وبتجهيره الجواهر عرف أن لا جوهر له وبمضادته بين الأشياء عرف أن لا ضد له وبمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له، ضاد النور بالظلمة واليبس بالبلل والخشن باللين والصرد بالحرور، مؤلف بين متعادياتها ومفرق بين متدانياتها، دالة بتفريقها على مفرقها وبتأليفها على مؤلفها وذلك قوله تعالى: “ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون” ففرق بين قبل وبعد ليعلم أن لا قبل له ولا بعد له، …) الكليني، الكافي: 1/139.
معرفتنا بعدم شذوذ أي مخلوق عن الزوجية بالمعنى الذي ذكرناه يكفي لدفع توهّم المشككين، والأمثلة التي ساقوها في إشكالهم لا قيمة علمية لها، فمثلاً: المخلوق “أحادي الخلايا” الذي لا يتكاثر جنسياً – وليس فيه تصنيف ذكر وأنثى – لا يخرج عن اتصافه بالزوجية من جهة مقابلته كصنف أحيائي للمخلوق متعدد الخلايا، والملكة وعاملات النحل أناث بالنتيجة مهما كانت صفتهن الوظيفية داخل المملكة، والأهم من ذلك: أنّ الكائنات الحية كلها سواء كانت حيواناً أو نباتاً، أحادية الخلايا أو متعددة الخلايا، ومهما كانت أنواعها وطرق تكاثرها والبيئة التي تعيش فيها لا تخرج عن كونها محكومة بقانون الزوجية العام الذي يحكم وجود عوالم الخلق كلها بما فيها عالمنا الذي نحن فيه وما فيه من خلق.
أما مسألة حصر “الزوجية” بالزوجين اللذين يتكاثران جنسياً، وهو لم يحصل إلا في مرحلة متأخرة من تاريخ التطور على هذه الأرض، باعتبار أنّ قوام التطور هو السير من البساطة إلى التعقيد كما هو معروف، فقد كانت البداية بالتكاثر اللاجنسي (لا تزاوجي)، ثم حصل التكاثر الجنسي (تزاوجي) بين فردين ذكر وأنثى في الكائنات الحية المعقدة ومنها الإنسان، وهو تكاثر له عدة صور؛ منها: أن يكون الكائن الحي ثنائي الجنس أي لديه أعضاء تناسلية ذكرية وأنثوية، ومنها: أن يمارس الكائن الحي دور الذكر في مقطع من حياته ثم يمارس دور الأنثى في مقطع زمني آخر، ومنها: حالة انفصال وتمايز جنس الذكر عن الأنثى مدى الحياة، كما هو الحال عند الإنسان وأغلب الحيوانات التي تنقل جيناتها عبر التكاثر الجنسي (أنظر: علاء السالم، المثلية الجنسية: 42 – 43).
أقول: مسألة حصر الزوجية بالذكر والأنثى اللذين يتكاثران جنسياً مجرد جهل وتسطيح للموضوع، ويبدو لي أنّ التشكيك بالقرآن لدى البعض مجرد هواية وإضافة رقم في عداد المشككين ليس إلا.
ملاحظة: بالنسبة لآية الثمرات: “وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ” فقد اتضح حال الزوجية فيها بما تقدم، وأما آية: “حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ” فينبغي معرفة أنّ المراد فيها ليس ما توهّمه بعض المفسّرين والمشككين من أنّ نوحاً (ع) حمل معه زوجاً من كل الكائنات الحية ما يعني أنه سيحتاج سفينة ربما لا تسعها مساحة بلد كامل ووقتاً طويلاً جداً وغير ذلك من إشكالات، الأمر الذي أحدث عاصفة من السخرية التي أثارها الملحدون على القرآن الكريم البريء أساساً من هذا الفهم الخاطئ، وقد قلت مراراً: إنّ القرآن غير معني بغير فهم صاحبه “حجة الله”، وأما أقوال بعض المفسرين أو وهم المشككين فهم أولى بتحمّل تبعات أقوالهم وفهمهم.
وعموماً، الصحيح في فهم الآية وتحديد ما حمله نوح (ع) معه في السفينة هو ما أوضحه السيد أحمد الحسن عند استعراضه حادثة الطوفان في نصوص السومريين والبابليين والكتب المقدسة، يقول معقباً على قصة الطوفان في النصوص السومرية:
(….. إنّ مهمة زيوسودرا كانت صنع سفينة تحافظ على ذرية خاصة من البشر ونبات خاص وحيوانات خاصة، وربما هناك إشارة واضحة في النص السومري لهذا وهي كلمة “حافظ على الزرع”، فأكيد المقصود نبات خاص وإلا فالفيضان مهما كان عظيماً على الأرض فالنتيجة أنّ النباتات لا تحتاج سفينة تنقلها لتحافظ عليها فعلى الأقل أنّ بذورها تبقى وتنبت بعد الفيضان دون حاجة لمساعدة، ولهذا فواضح أنّ المقصود هو نباتات الزراعة التي يتغذى عليها الإنسان، وربما المقصود بالخصوص هو أنّ زيوسودرا نقل كمية كافية من بذورها لتتم إعادة العملية الزراعية الإنتاجية دون الحاجة للبداية من الصفر عندما لا تكون بذور الحنطة والمحاصيل الزراعية متوفرة لدى الإنسان (ابن آدم)، ولهذا فالنص ربما واضح بأنّ المنقولين بالسفينة هم مجموعة من الناس المؤمنين بقول نوح، وأيضاً بذور زرع انتاجي اقتصادي مهم للإنسان، وأيضاً يمكننا أن نستنتج تبعاً لهذا أنّ الحيوانات المنقولة هي الحيوانات المدجنة النافعة للإنسان، وأخيراً نجح زيوسودرا أو نوح وتمت مكافئته؛ لأنه قبل كلام الله ووحي الله وارتقى في ملكوت السماوات بعد أن تمت عملية النقل والإنقاذ بالسفينة، وسكن زيوسودرا في أرض دلمون أو أرض العبور كما في النص السومري).
ويقول أيضاً: (وتوجد بعض الروايات تصف بعض أحداث طوفان نوح بالصورة الصحيحة التي جرت بها والتي لا تتعارض مع العلم، مثلاً: معنى حمل نوح للحيوانات في السفينة وأنّ المقصود هو الحيوانات المدجنة التي يقتات عليها الإنسان نجده في رواية: عن إسماعيل بن جابر عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: “صنعها في ثلاثين سنة ثم أمر أن يحمل فيها من كل زوجين اثنين الأزواج الثمانية التي خرج بها آدم (عليه السلام) من الجنة ليكون معيشة لعقب نوح (عليه السلام) في الأرض كما عاش عقب آدم (عليه السلام) فإن الأرض تغرق بما فيها إلا ما كان معه في السفينة”) أحمد الحسن، وهم الإلحاد – الفصل الخامس: 406، 437.