(29)
• مثال 3: “وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ” القصص: 38، الآية تصرح أنّ هامان كان يعمل عند فرعون، في حين يزعم المشككون أنه لا وجود له في زمن فرعون، وكذلك السامري والسامريين الذين عبدوا العجل: “قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ”، فهم جاءوا بعد سبي بابل بحسب بعض المشككين، وهذا خطأ تاريخي لا ينبغي صدوره من كتاب إلهي!
الجواب: وجود وزير لفرعون كان يعتمد عليه حقيقة ذكرها القرآن، وأيضاً: ورد في الروايات أنّ هامان هو المحرّض الرئيس على إيذاء موسى والمؤمنين به، وهو من كان يمنع فرعون من أن يلين قلبه لموسى (ع)، ولقد همَّ بتصديقه في بعض المواقف لكن هامان قال له: “بينما أنت إله تعبد إذ صرت تابعاً لعبد؟!” (انظر: المجلسي، بحار الأنوار: 13/120)، بل وكاد بدهائه أن يكشف أمر موسى (ع) وهو طفل رضيع عندما أرادت أخته أن تدلّهم على مرضعة تتكفل أمره بعد أن كان موسى يرفض الرضاعة من صدور النساء: “قالت لهم: هل أدلكم على أهل بيت يقبلون هذا الولد، ويبذلون النصح في أمره، ويحسنون تربيته، ويضمنون لكم القيام بأمره. (وهم له ناصحون) يشفقون عليه وينصحونه. وقيل: إنه لما قالت أخته ذلك، قال هامان: إن هذه المرأة تعرف أن هذا الولد من أي أهل بيت هو. فقالت هي: إنما عنيت أنهم ناصحون للملك. فأمسكوا عنها”. (انظر: الطبرسي، مجمع البيان: 7/420).
ولذلك كان عذابه شديداً، قال الرسول (ص): “من خف لسلطان جائر في حاجة كان قرينه في النار، ومن دل سلطاناً على الجور قرن مع هامان، وكان هو والسلطان من أشد أهل النار عذاباً ” الحر العاملي، وسائل الشيعة: 17/181.
كذلك بالنسبة للسامري الذي ورد ذكره في القرآن والروايات، مثلاً: ورد عن الإمام الباقر (ع) قال: “وكان السامري على مقدّمة موسى يوم أغرق الله فرعون وأصحابه، فنظر إلى جبرئيل وكان على حيوان في صور رمكة “فرس” فكانت كلّما وضعت حافرها على موضع من الأرض تحرك ذلك الموضع، فنظر إليه السامري وكان من خيار أصحاب موسى، فأخذ التراب من تحت حافر رمكة جبرئيل وكان يتحرك، فصرّه في صرّة، وكان عنده يفتخر به على بني إسرائيل، فلما جاءهم إبليس واتخذوا العجل قال للسامري هات التراب الذي معك، فجاء به السامري فألقاه إبليس في جوف العجل، فلما وقع التراب في جوفه تحرك وخار ” (تفسير القمي: 2/62).
وعموماً، من ينكر وجود شخصية باسم هامان أو السامري في زمن موسى (ع) كما صرّح القرآن فليقدم دليله القطعي على أنهما لم يكونا موجودين فعلاً ليكون نقضه على القرآن تاماً، ومثل هذا غير موجود لدى المشككين.
وإذا كان مستند المشككين في الإنكار هو رفض بعض أتباع الديانات – كبعض اليهود مثلاً – وجود هكذا شخصيات بحجة عدم ذكرها صريحاً في النصوص التي بين أيديهم، فنحن نعتقد كما – صرّح القرآن بذلك – أنهم لم يوصلوا الحقيقة الكاملة كما هي، وأنهم حرّفوا كثيراً من الحقائق، قال تعالى: “مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ” النساء: 46، ويكفي أن نعرف أنهم نسبوا فتنة عبادة العجل إلى خليفة من خلفاء الله في أرضه وهو هارون وصي موسى (ع) بغضاً به وإساءة إليه.
والأكثر من هذا: حتى مع افتراض وجود شخص باسم السامري أو هامان في زمن متأخر عن زمن موسى (ع)، وهو افتراض غير موجود طبعاً، لمجرد وجود تشابه في جهة ما، فهذا لا بعني بالضرورة عدم وجود شخصية حقيقية لكل من هامان والسامري في زمن سابق؛ لأنه لا ملازمة ين الأمرين إطلاقاً.
وبخصوص نفي وجود “السامري” يطرح المشككون نصاً ورد في سفر الملوك (16)، سآخذ منه موضع الشاهد: “… وَبَقِيَّةُ أُمُورِ زِمْرِي وَفِتْنَتُهُ الَّتِي فَتَنَهَا، أَمَا هِيَ مَكْتُوبَةٌ فِي سِفْرِ أَخْبَارِ الأَيَّامِ لِمُلُوكِ إِسْرَائِيلَ؟ حِينَئِذٍ انْقَسَمَ شَعْبُ إِسْرَائِيلَ نِصْفَيْنِ، فَنِصْفُ الشَّعْبِ كَانَ وَرَاءَ تِبْنِي بْنِ جِينَةَ لِتَمْلِيكِهِ، وَنِصْفُهُ وَرَاءَ عُمْرِي. وَقَوِيَ الشَّعْبُ الَّذِي وَرَاءَ عُمْرِي عَلَى الشَّعْبِ الَّذِي وَرَاءَ تِبْنِي بْنِ جِينَةَ، فَمَاتَ تِبْنِي وَمَلَكَ عُمْرِي. فِي السَّنَةِ الْوَاحِدَةِ وَالثَّلاَثِينَ لآسَا مَلِكِ يَهُوذَا، مَلَكَ عُمْرِي عَلَى إِسْرَائِيلَ اثْنَتَيْ عَشَرَةَ سَنَةً. مَلَكَ فِي تِرْصَةَ سِتَّ سِنِينَ. وَاشْتَرَى جَبَلَ السَّامِرَةِ مِنْ شَامِرَ بِوَزْنَتَيْنِ مِنَ الْفِضَّةِ، وَبَنَى عَلَى الْجَبَلِ. وَدَعَا اسْمَ الْمَدِينَةِ الَّتِي بَنَاهَا بِاسْمِ شَامِرَ صَاحِبِ الْجَبَلِ «السَّامِرَةَ». وَعَمِلَ عُمْرِي الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ، وَأَسَاءَ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ الَّذِينَ قَبْلَهُ. وَسَارَ فِي جَمِيعِ طَرِيقِ يَرُبْعَامَ بْنِ نَبَاطَ، وَفِي خَطِيَّتِهِ الَّتِي جَعَلَ بِهَا إِسْرَائِيلَ يُخْطِئُ، لإِغَاظَةِ الرَّبِّ إِلهِ إِسْرَائِيلَ بِأَبَاطِيلِهِمْ. وَبَقِيَّةُ أُمُورِ عُمْرِي الَّتِي عَمِلَ وَجَبَرُوتُهُ الَّذِي أَبْدَى، … “.
بعض المشككين حاول أن يُسقط هذا النص على السامري المذكور في القرآن، واستنتج أنّ مدينة السامرة – والسامري والسامريين بالتبع – لم يكن لهم وجود في زمن موسى (ع)؛ باعتبار أنّ المدينة بنيت بعد موسى (ع) بمئات السنين.
وهو استنتاج مرفوض قطعاً:
أولاً: نحن معنيون بأمر السامري المذكور في القرآن بالتحديد؛ لأنه محل الخلاف والإشكال دون سواه، والنص كما هو واضح يتحدث عن ملك مجرم وثني اسمه “عُمري” انتخبه الشعب خوفاً من سطوته، وحكم مملكة إسرائيل بعد “زمري” وبنى مدينة السامرة، ولا ملازمة بين وجود “عمري” هذا – وحتى زمري وفتنته – وبين عدم وجود السامري وفتنة عبادة العجل التي أسّسها في وقت سابق على بناء “عمري” للسامرة بوقت طويل.
وثانياً: بالنسبة لاسم “سامري” فليس بالضرورة أن يكون نسبة إلى “السامرة”؛ المدينة التي لم تكن موجودة في أيام موسى (ع) والسامري “صاحب فتنة العجل”، بل لعله لفظ معرّب، وربما هذا هو الأكيد بعد كون القرآن نزل بلغة العرب، فيكون حال لفظ “سامري” كحال لفظ “موسى” تماماً، فأصله بالعبراني: “موشى” أو “موشيه”، وكذلك: لفظ إسماعيل واليسع مثلاً فإنّ أصلهما بالعبراني: “يشمع إيل” بمعنى سَمِعَ الله، و”إليشا” بمعنى إلهي هو الله. على هذا، لِمَ لا يكون أصل لفظ “سامري” بالعبراني “شامري” أو “شمروني” نسبة إلى “شمرون بن يساكر” أحد أبناء يعقوب (ع)، رئيس عشيرة الشمرونيين، وهم قبيلة كبيرة في زمن موسى (ع) كما هو معروف، ولا أقل لا يوجد مانع عقلي أو تاريخي يصرف هذا الاحتمال. خصوصاً وأنّ المسائل التاريخية تبقى في دائرة الإمكان ما لم يقم دليلاً قطعياً على نفيها، والمشككون ليس لديهم مثل هذا القطع نهائياً.
وأيضاً: هم لم يقيموا دليلاً قطعياً على وحدة شخصيتي السامري وعمري في النص المتقدم. اللهم، إلا إذا كان منشأ الوهم لديهم هو تشابههما في الانحراف العقائدي، لكن لا مانع من أن يكون السامري “المتقدم زماناً” قدوة له في هذا الفعل والعقيدة المنحرفة، ولا شك أنّ السامري والسامريين موجودون دائماً، وأنّ عبادة “العجول” سواء كانت منحوتة أو بشرية ظاهرة مستمرة على طول خط الرسالات الإلهية، فـ “لكل قوم سامري” كما يقول الامام علي (ع) (انظر: الطبرسي، الاحتجاج: 1/251).
يقول السيد أحمد الحسن: (وقصة السامري والعجل لابد لكل مسلم أن يطلع عليها ويتعظ بها، فالسامري في هذه الأمة هو: العالم غير العامل الضال الذي يحرف دين الله، والعجل هو العقيدة الفاسدة والضلال الذي ينشره علماء السوء بين الناس) المتشابهات، ضمن جواب سؤال 82.
وأما قول المشككين إنّ بناء السامرة وظهور السامريين لم يكن إلا بعد سبي بابل، فهو كلام غير صحيح على كل حال؛ لأن التاريخ المذكور لحكم “عمري” هو الربع الأول من القرن التاسع قبل الميلاد (873 ق.م)، والسبي البابلي لم يحصل إلا في القرن السادس قبل الميلاد كما هو المعروف تاريخياً. نعم، ربما يقصد بعض المشككين السبي الآشوري الذي حصل لأهل السامرة واستباحة مدينتهم، لكنه أيضاً حصل في الربع الأخير من القرن الثامن (722 ق.م) أي بعد بناء السامرة بقرن ونصف تقريباً.
وإذا انتفى وجود مستند تاريخي قطعي ينفي وجود هكذا شخصيات تبقى الحقيقة المذكورة في القرآن على نصوعها، والاعتقاد بأحقيتها وصدقها مرهون بالتحقق من أحقية وصدق الناطق بالقرآن لا غير، كما قدّمت مراراً.