(30)
• مثال 4: بعض المشككين يشكل على القرآن من جهة أنه ذكر إسراء النبي (ص) من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى “هيكل سليمان”، ووصف أبوابه ونوافذه وكيف أنه صلى فيه مع الأنبياء، والحال أنّ الهيكل طاله الخراب قبل حادثة الإسراء بفترة طويلة وبني بعد موت النبي (ص) بمائة عام تقريباً.
الجواب: ينبغي أن نعرف أولاً أنّ مسألة الإسراء والمعراج حقيقة واقعة حصلت مع النبي محمد (ص) بنص القرآن والروايات المتواترة عند المسلمين، أما اختلاف علماء المسلمين في بيان حقيقة الاسراء وهل أنه حصل بروح النبي (ص) فقط، أم بجسده فقط، أم بروحه وجسده معاً، أم حصل بالروح مرة وبالجسد أخرى، وكل هذا موجود في أقوالهم وبحوثهم (انظر: المازندراني، شرح أصول الكافي: 12/525)، أقول: هذا الاختلاف لا يؤثر على حقيقة الإسراء وكذا المعراج شيئاً أبداً.
قال تعالى: “سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ” الإسراء: 1.
سُئل السيد أحمد الحسن عدة أسئلة تتعلق بمسألة الإسراء والمعراج:
- كيف كان الإسراء، هل بالروح فقط أم الجسد والروح؟
- الإسراء هل هو متقدم على المعراج أو متأخر؟
- ما المقصود من المسجد الحرام والمسجد الأقصى؟
- البركة التي اختص بها المسجد الأقصى، وما المقصود بها والتي هي حوله؟
فأجاب:
- ج1: الإسراء بالروح والجسد معاً، والمعراج بالروح والجسد المثالي الذي يناسب كل سماء، قال تعالى: “فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ” الانفطار: 8.
- ج2: المعراج حصل أكثر من مرة، فقد حصل المعراج قبل الإسراء وحصل بعده.
- ج3: المسجد الحرام هو الكعبة، والمسجد الأقصى هو بيت الرب أو بيت التقرب أو القربان أو هيكل سيلمان (ع)، وسمي هيكل سليمان؛ لأن نبي الله سليمان هو الذي بناه.
- ج4: البركة هي الفيض الإلهي النازل على أهل الأرض) الجواب المنير عبر الأثير: جواب سؤال 408.
بطبيعة الحال، كشأن أي بناء آخر يتقادم عليه الزمن، فإنّ بناء المسجد الأقصى الذي تم على يد النبي سليمان (ع) في القدس (انظر: ابن ماجة، سنن ابن ماجة: 1/452؛)، تعرّض للتخريب بفعل الحروب الكثيرة التي كانت تؤدي إلى تخريب مدينة القدس كلها أحياناً، ومثل هذا الأمر حصل مع الكعبة والمسجد الحرام في مكة أيضاً، وكما كان يُعاد تجديد بناء الكعبة أو المسجد الحرام عموماً كان يعاد بناء المسجد الأقصى أيضاً.
وبصرف النظر الآن عن التحقيق في مسألة هل كان بناء المسجد مشيّداً وقت إسراء النبي (ص) أو كان مخرّباً (كما يدعي المشككون) وأعيد بناؤه بعد ذلك، فأكيد أنّ للمسجد حدوداً يعرفها ربما الكثير من الناس، ولا أقل أنها واضحة ومعلومة بالنسبة إلى أولياء الله، وبالتالي فلا يختلف الحال بالنسبة لإسراء النبي (ص) من هذه الناحية.
والأهم من ذلك: إنّ إسراء النبي (ص) من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وإن كان بروحه وجسده في هذا العالم، لكن هذا لا يعني أنّ آيات ربه التي رآها – ومنها صلاة الأنبياء والملائكة خلفه – كانت في هذا العالم أيضاً، وهذا أمر واضح في روايات أوصياء محمد صلوات الله عليهم.
(عن أبي عبد الله عليه السلام قال: أتى رجل إلى أمير المؤمنين وهو في مسجد الكوفة وقد احتبى بحمائل سيفه. فقال: يا أمير المؤمنين، إن في القرآن آية قد أفسدت عليّ ديني وشككتني في ديني! قال: وما ذاك؟ قال: قول الله عز وجل: “واسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنا، أجعلنا من دون الرحمان آلهة يعبدون”، فهل في ذلك الزمان نبي غير محمد صلى الله عليه وآله فيسأله عنه؟ فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: اجلس أخبرك إن شاء الله، إن الله عز وجل يقول في كتابه: “سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا”، فكان من آيات الله التي أريها محمد صلى الله عليه وآله أنه انتهى جبرئيل إلى البيت المعمور وهو المسجد الأقصى، فلما دنا منه أتى جبرئيل عينا فتوضأ منها، ثم قال يا محمد، توضأ. ثم قام جبرئيل فأذن ثم قال للنبي صلى الله عليه وآله: تقدم فصل واجهر بالقراءة، فإنّ خلفك أفقاً من الملائكة لا يعلم عدتهم إلا الله جل وعز. وفي الصف الأول: آدم ونوح وإبراهيم وهو وموسى وعيسى، وكل نبي بعث الله تبارك وتعالى منذ خلق الله السماوات والأرض إلى أن بعث محمداً صلى الله عليه وآله. فتقدم رسول الله صلى الله عليه وآله فصلى بهم غير هائب ولا محتشم. …) ابن طاووس، اليقين: 294.
وبمثله أجاب الإمام الباقر (ع) نافع مولى عبد الله بن عمر لما سأله عن نفس الآية. (انظر: الكليني، الكافي: 8/121).
واضح من كلام أوصياء محمد (ع) أنّ صلاة النبي (ص) إماماً بالأنبياء والمرسلين والملائكة كانت في بيت الرب في العوالم العلوية وقد تجلى وظهر في عالمنا هذا بالمسجد الأقصى، بمعنى أنّ المسجد الأقصى هو صورة وظهور للبيت المعمور في هذا العالم، وهذا يعني أنّ معراج النبي (ص) بروحه + الجسد المثالي (الذي يناسب العوالم العلوية التي رأى فيها الأنبياء وآيات ربه الأخرى) لم ينفك عن الإسراء الذي حصل له “روحاً وجسداً” من مكة إلى بيت المقدس؛ خصوصاً فيما يتصل برؤية النبي (ص) لآيات ربه التي نصَّ عليها القرآن إجمالاً وفصّلتها روايات خلفاء الله.
يؤكد ذلك قول النبي (ص) نفسه لما سألته اليهود: (قالت اليهود: موسى خير منك. قال النبي صلى الله عليه وآله ولم قالوا: لأن الله عز وجل كلمه بأربعة آلاف كلمة ولم يكلمك بشئ. فقال النبي صلى الله عليه وآله: لقد أعطيت أنا أفضل من ذلك. قالوا: وما ذاك؟ قال: هو قوله عز وجل: “سبحان الذي أسري بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله” وحملت على جناح جبرائيل حتى انتهيت إلى السماء السابعة فجاوزت سدرة المنتهى عندها جنة المأوى، حتى تعلقت بساق العرش فنوديت من ساق العرش: “إني أنا الله لا إله إلا أنا السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الرؤف الرحيم” ورأيته بقلبي وما رأيته بعيني، فهذا أفضل من ذلك) المجلسي، بحار الأنوار: 9/290.
وأيضاً: ورد عن الإمام الكاظم، عن آبائه (ع)، عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه في حديث يذكر فيه مناقب رسول الله (ص) قال: (إنّه لمّا أُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى مسيرة شهر، وعرج به في ملكوت السماوات مسيرة خمسين ألف عام في أقلّ من ثلث ليلة، حتّى انتهى إلى ساق العرش، فدنى بالعلم فتدلّى فدلّي له من الجنّة رفرف أخضر، وغشى النور بصره، فرأى عظمة ربّه عزّ وجلّ بفؤاده ولم يرها بعينه، فكان قاب قوسين بينه وبينها أو أدنى، فأوحى الله إلى عبده ما أوحى) المجلسي، بحار الأنوار: 3/320.
وبطبيعة الحال، فإنّ رؤية النبي (ص) لبعض آيات ربه في العوالم العلوية لا يعني – كما قلت – أنه لم يسرَ به من مكة إلى بيت المقدس بروحه وجسده ورؤيته لبعض الأمور التي تخص هذا العالم – بل عالم الملك كله – وإخبار قومه بها قبل انكشافها لهم، مثل مروره بعير لقريش ونحو ذلك، (قال الصادق عليه السلام: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وآله في طريق مر على عير في مكان من الطريق، فقال لقريش – حين أصبح – يا معاشر قريش إن الله تبارك وتعالى قد أسرى بي في هذه الليلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى – يعني بيت المقدس – حتى ركبت على البراق، وإن العنان بيد جبريل عليه السلام… ركبت عليه وصعدت إلى السماء، وصليت بالمسلمين وبالنبيين أجمعين وبالملائكة كلهم، ورأيت الجنة وما فيها، والنار وما فيها، واطلعت على الملك كله) الخصيبي، الهداية الكبرى: 51.
إذا اتضح هذا، فسواء كان بناء المسجد الأقصى “هيكل سليمان” في وقت إسراء النبي (ص) من المسجد الحرام إليه مقاماً في مدينة القدس أو كان متهدماً وتم تخريبه، فلا يؤثر على واقع المسألة “الاسراء والمعراج” شيء، والنصوص عموماً (الدينية والتاريخية) التي وصلتنا بيّنت أنّ النبي (ص) وقف على صخرة كانت في ساحة المسجد ومنها عرج إلى السماء، ثم لاحقاً بني عليها بناء سمي بقبة الصخرة وهو بناء يقع في قلب باحة المسجد تقريباً.
بهذا يتضح أنّ القرآن لم يخالف حقيقة تاريخية كما يزعم المشككون.