(31)
مثال 5: أشكل بعض المشككين على الآية: “وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ” يوسف: 20، وزعم أنّ فيها خطأً تاريخياً بحجة أنّ الناس في وقت الفراعنة لم تكن تتعامل بالدراهم، وإنما كان البيع والشراء يتم من خلال تبادل السلع، أما أول درهم مسكوك للتعامل فهو الدرهم اليوناني في القرن السابع ق.م تقريباً.
الجواب: بحسب الباحثين، فإنّ استعمال المال كوسيط في التبادل التجاري بين البشر يعود لتاريخ موغل في القدم، وكان الناس قبل ذلك تتعامل فيما بينها من خلال “المقايضة” أي: تبادل السلع نفسها كثمن ومثمن في عمليات البيع والشراء، بل ربما استعملت الحبوب والزراعة والماشية وبعض الخدمات أيضاً كأثمان لبعض السلع. وكشأن أي مسألة إنسانية أخرى، تطورت وسائل التبادل التجاري في عمليات البيع والشراء بمرور الزمن حتى وصلت إلى ما هي عليه اليوم.
يقول أستاذ الأنثروبولوجيا بالجامعة الأمريكية “د. كوسيمبا” عن تاريخ نشأة العملات في مقال منشور في موقع (The conversation):
“يعود تاريخ استخدام البشر للعملات النقدية لزمن بعيد نحو 40 ألف سنة. وقد تتبع العلماء التبادل والتجارة من خلال السجل الأثري، بدءًا من العصر الحجري القديم العلوي عندما كانت مجموعات من الصيادين تتاجر للحصول على أفضل الأسلحة من الصوان وغيرها من الأدوات. أولا، تعامل الناس بالمقايضة، أي التبادل المباشر بين الطرفين للسلع المرغوبة. وجاء المال في وقت لاحق. وقد تطور شكله على مدى آلاف السنين من الأشياء الطبيعية إلى النقود المعدنية إلى العملات الورقية إلى الأموال الرقمية. ولكن أيا كان الشكل، فقد استخدم البشر منذ فترة طويلة العملة كوسيلة للتبادل، وطريقة للدفع، ومعيار للقيمة، ومخزن للثروة ووحدة للحساب. وبصفتي عالم أنثروبولوجيا ممن قاموا بإجراء اكتشافات في هذا المجال، فإنني مهتم بكيفية تطور الأموال في الحضارة الإنسانية، وما يمكن لهذه الاكتشافات الأثرية أن تخبرنا به عن التجارة والتفاعل بين المجموعات البعيدة.
هناك العديد من النظريات حول أصل المال،….. من الصعب أن نحدد بدقة أول التفاعلات التي استخدمت فيها العملة من أنواع مختلفة، ولكن الأدلة تشير إلى أنها نشأت عن تبادل الهدايا وتسديد الديون.
الخامات التي يعتبر وجودها نادر في الطبيعة والتي يمكن التحكم في تداولها بكفاءة برزت بوصفها وحدات قيمة للتفاعل والتبادل. وهذه تشمل القواقع، مثل أصداف اللؤلؤ التي انتشرت على نطاق واسع في الأمريكتين وأصداف الودع التي استخدمت في أفريقيا وأوروبا وآسيا وأستراليا. النحاس، والحديد، والسبج، والعنبر، والخرز، والذهب، والفضة وسبائك الرصاص أيضاً استخدمت كعملات. وقد استخدم الناس حتى الحيوانات الحية مثل الأبقار كشكل من أشكال العملة حتى وقت قريب نسبيا. وقد نشأ شيكل بلاد بين النهرين – وهو أول شكل معروف للعملة – منذ ما يقرب من 5000 عام. وتعود أقدم العملات المعروفة إلى 650 و 600 قبل الميلاد في آسيا الصغرى، حيث استخدمت النخبة في كل من مملكة ليديا ومدينة أيونية الفضة والذهب المدموغ لدفع رواتب الجيش”. (انظر: المقال الأصلي منشور باللغة الإنجليزية على رابط في التعليقات).
وبخصوص الفراعنة الذين حكموا مصر، وتحديداً في الفترة التي تواجد فيها نبي الله يوسف على أرض مصر (الألف الثاني ق.م)، ولنفترض أنّ المقايضة بالسلع هي السائدة بين الناس في معاملاتهم، لكن أيّاً تكن العملة وثمن المبيعات في زمنهم فهي لا تؤثر على الآية القرآنية موضع البحث، والسبب في ذلك:
إنّ نبي الله يوسف (ع) الذي باعه أخوته بثمن بخس “قليل وناقص” مهما كان قليلاً لكن من المؤكد أنّ له قيمة في ذاك الزمن أيّاً كان جنس العملة والثمن الذي قبضوه مقابل بيعه، وله ما يعادله بالعملات في أزمان لاحقة، والعرب قبيل الإسلام وكذا في زمن بعثة الرسول (ص) ونزول القرآن كانوا يتعاملون غالباً بالدنانير والدراهم الرائجة في زمانهم، ولنفترض أنها كانت بيزنطية أو ساسانية بحكم سيطرة الروم والفرس على المناطق القريبة وعلى أسواق العرب أيضاً، أو كانت عملة خاصة متداولة بينهم، فهي – أي عملة الدراهم – بالنتيجة مشتهرة بينهم والقرآن ذكر القيمة التي بيع بها يوسف في وقت نطق رسول الله (ص) بالقرآن – الآية تحديداً – وهي عدة دراهم بحسب المعروف لدى العرب “المواجهين الأوائل للقرآن والمتلقين له”، باعتبار أنّ غرض الآية هو إفهامهم وبيان مدى الظلم والحيف الذي وقع على يوسف (ع) والزهد بقدره الحقيقي، وهذا يتحقق بمنطوق الآية بالتأكيد، وبالتالي فهي لا تعني أنّ ما قبضه أخوة يوسف كثمن هو دراهم كما فهم المشكك، وإنما تعني أنّ العوض الذي استلمه من باع يوسف (ع) قيمته في زمن نزول الآية يعادل عدة دراهم.
بل الآية – كما لاحظنا – لم تحدّد عدداً معيّناً للدراهم باعتبار أنّ القيمة التي بيع بها يوسف تختلف بحسب ما يعادلها من دراهم أو عملات أخرى بين زمن وآخر، فمثلاً لو كانت قيمة ثمنه في زمن رسول الله (ص) 10 دراهم، فقد تكون في زمن لاحق 18 درهماً أو 20 درهماً، كزمن الإمام الباقر والإمام الصادق (ع)، فعن قوله تعالى: “وشروه بثمن بخس دراهم معدودة”:
– قال الباقر (ع): “كانت الدراهم ثمانية عشر درهماً” (انظر: العياشي، تفسير العياشي: 2/172).
– وقال الصادق (ع): “كانت عشرين درهماً” (انظر: الحر العاملي، وسائل الشيعة: 29/228).
وكلاهما (ع) صادق في قوله وتحديد عدد الدراهم بحسب قيمته في زمانه، بل ويمكن لحجة الله في زمننا أن يحدّد القيمة التي بيع بها يوسف بحسب العملة المشتهرة بيننا اليوم، وهي في كل الأحوال قليلة وزهيدة، كما أنها تبقى تساوي 20 درهماً في زمن الامام الصادق (ع) و 18 درهماً في زمن الامام الباقر (ع)، وهي بالنتيجة تساوي عدة دراهم في زمن الرسول (ص)، وجميع التقديرات مهما اختلفت – بحسب اختلاف العملات الرائجة في كل زمان – تساوي قيمة العوض الذي تم به بيع يوسف (ع).
فالأمر – كما لاحظنا – يُضفي دقة على النص القرآني أكثر من كونه مأخذ تاريخي للطعن على القرآن كما توهّم المشككون بسبب جهلهم بالمراد.