(32)
مثال 6: يشكل بعض المشككين على الآية: “إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ” آل عمران: 35 – 37، بأنّ فيها خطأً تاريخياً بحجة أنّ مريم بنت عمران “أخت موسى وهارون” لم تتزوج ولا ولدت، ومريم العذراء هي بنت هالي وليس عمران، والقرآن خلط بين الامرأتين. وأيضاً: لم يرد أنّ امرأة نذرت ما في بطنها سوى حنّة أم النبي صموئيل، ولم يرد كذلك أنّ زكريا كان يقيم في الهيكل في أورشليم حتى يكفل مريم التي كانت تقيم في الناصرة، لأنه من حبرون ولا يأتي ليخدم في الهيكل إلا بالقرعة ولفترة قصيرة في السنة!
الجواب:
1- القرآن لم يخلط بين مريم العذراء “أم عيسى (ع)” وبين مريم “أخت هارون”، وقد ذكرتا كلتاهما في القرآن، أما مريم العذراء فكثير، وأما مريم بنت عمران “أخت هارون” ففي قوله تعالى الذي يحكي قصة ولادة موسى (ع): “وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ” القصص: 11-12. وأشرنا سابقاً أنّ وصف مريم العذراء بـ “أخت هارون” هو تشبيهها بمريم أخت هارون من حيث الشرف والعفة والطهارة.
2- هل حنّة “أم صموئيل” الوحيدة التي نذرت ابنها لخدمة الله؟ الجواب: كلا بالتأكيد، فحنة “والدة مريم” نذرت بنتها لله أيضاً، وليس هذا الأمر واضح لدينا كمسلمين وحسب، ولكن المسيحيين يعتقدون بذلك أيضاً.
يصرّح موقع الأنباء تيكلا هيمانوت تحت عنوان “القديسة مريم العذراء”: “وُلدت هذه العذراء بمدينة الناصرة حيث كان والداها يقيمان، وكان والدها متوجع القلب لأنه عاقر. وكانت القديسة حنة أمها حزينة جدًا فنذرت لله نذرًا وصلَّت إليه بحرارة وانسحاق قلب قائلة: “إذا أعطيتني ثمرة فإني أقدمها نذرًا لهيكلك المقدس”. موقع الأنبا تيكلا هيمانوت (انظر: التعليقات 1).
يقول الأنبا بيشوي: “لقد تربت القديسة مريم على محبة الله ومحبة الخدمة منذ نعومة أظافرها فهي التي ولدت من القديسة حنة ويواقيم البار اللذين داوما على الصلاة حتى رزقهما الله بالقديسة مريم بعد الكبر، وقد نذراها وقدماها للهيكل في عمر ثلاث سنوات كما صموئيل النبي، وأقامت في الهيكل حتى بلوغها تخدم مع العذارى والأرمل وتساعد في تنظيف واعداد وخدمة بيت الله” انظر: موقع “كلام” المسيحي الشامل (انظر: التعليقات 2)
ويقول الأنبا توماس عدلي، مطران أبرشية الجيزة للأقباط الكاثوليك: “حتى وإن كان التقليد الكنسي يقول إنّ العذراء قضت طفولتها في الهيكل، ولكن ذكر أيضاً أنّ والدتها هي من نذرتها لخدمة الله في الهيكل، وأيضاً أعتقد أنه كانت هناك أوقات كثيرة جمعت مريم الطفلة بأسرتها، فلم يكن الترك في الهيكل بمعنى الانقطاع التام عن والدتها، ولكن اختيار الله لهذا النسل بالتحديد لتأتى منه العذراء كان من المؤكد بتدبير منه، فهي الوحيدة التي كانت مؤهلة لأن تحمل في أحشائها المسيح”. (انظر: موقع البوابة – التعليقات 3)
3- بالنسبة إلى كفالة نبي الله زكريا (ع) لمريم، فهو أيضاً أمر نعتقد به بحسب ما لدينا من نصوص القرآن الكريم وكلام الرسل والحجج الإلهيين (ع)، وقد لاحظنا في كلمات علماء الدين المسيحيين أنهم – أيضاً – يعتقدون بخدمة مريم في الهيكل.
يقول القمص انطونيوس فهمي: “كَانَتْ هُنَاك صُورَة قَدِيمَة لِلعَذْرَاء وَهِيَ دَاخِلْ الهِيكَل اليَهُودِي حَيْثُ كَانَتْ تَخْدِم فِيهِ وَالهِيكَل اليَهُودِي مَعْنَاه ذَبَائِح وَتَقْدُمَات وَدَم وَمُخَلَّفَات حَيَوَانَات وَفَرَأيْنَاهَا فِي الصُورَة تَرْتَدِي مَلاَبِس بَسِيطَة حَافِيَة القَدَمَيْنِ تَذْهَبْ وَتَجِئ تُنَظِّف الهِيكَل لكِنْ عَامَةً تُصَوَر العَذْرَاء فِي الهِيكَل وَكَأنَّهَا تُصَلِّي فَقَطْ.. لاَ.. لَمْ يَكُنْ هذَا مَنْظَرْهَا.. نَعَمْ كَانَ لَهَا أوْقَات تَسَابِيح وَصَلَوَات وَقِرَاءَة فِي الكِتَاب المُقَدَّس لكِنْ كَانَ يَغْلِب عَلَيْهَا طَابِع الخِدْمَة وَكَانَتْ خِدْمَة شَاقَّة جِدّاً” (انظر: موقع القس أنطونيوس فهمي).
كذلك: كان لمريم (ع) قريبة لها نسباً كانت تزورها تسمّى “أليصابات” زوجة زكريا (ع)، نبي الله بحسب معتقدنا وبحسب إنجيل لوقا 1 “كاهن”: “5 كَانَ فِي أَيَّامِ هِيرُودُسَ مَلِكِ الْيَهُودِيَّةِ كَاهِنٌ اسْمُهُ زَكَرِيَّا مِنْ فِرْقَةِ أَبِيَّا، وَامْرَأَتُهُ مِنْ بَنَاتِ هارُونَ وَاسْمُهَا أَلِيصَابَاتُ. وَكَانَا كِلاَهُمَا بَارَّيْنِ أَمَامَ اللهِ، سَالِكَيْنِ فِي جَمِيعِ وَصَايَا الرَّبِّ وَأَحْكَامِهِ بِلاَ لَوْمٍ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُمَا وَلَدٌ، إِذْ كَانَتْ أَلِيصَابَاتُ عَاقِرًا. وَكَانَا كِلاَهُمَا مُتَقَدِّمَيْنِ فِي أَيَّامِهِمَا. فَبَيْنَمَا هُوَ يَكْهَنُ فِي نَوْبَةِ فِرْقَتِهِ أَمَامَ اللهِ، حَسَبَ عَادَةِ الْكَهَنُوتِ، أَصَابَتْهُ الْقُرْعَةُ أَنْ يَدْخُلَ إِلَى هَيْكَلِ الرَّبِّ وَيُبَخِّرَ”.
وبحسب النص، فإنّ زكريا (ع) كان يتواجد في الهيكل الذي كانت مريم (ع) تخدم فيه، فما المانع من أنه يقوم بكفالتها، خصوصاً وأنّ الكفالة لا تعني ضرورة أن يكون كفيلها بقربها دائماً وإنما تعني أنه يرعى ويتفقّد شؤونها واحتياجاتها، ما هو المانع الفعلي – سواء كان بمستوى الاستحالة أو دونها – الذي يمنع من ذلك؟! وأيضاً: ما هو الدليل القطعي على أنّ زكريا لم يدخل المعبد “هيكل سليمان” سوى مرة أو مرات قليلة جداً بحيث يمنع من صحة كفالته لمريم؟!! ومجرد أنّ إحداها مذكور في نص لا يعني أنّ غيرها لم يحدث إطلاقاً كما هو واضح.
أما إذا كان مستند المنع بنظر المشككين هو أنّ “مسألة الكفالة” لم ترد في نصوص الكتاب المقدس أو التقليد الكنسي، فمن الواضح أنهما لا يحتويان الحقيقة المطلقة التي لم يشذ عنها شيء أبداً، بل المسيحيون أنفسهم يعترفون بضرورة الحاجة إلى تقليدهم الكنسي؛ لأن الكتاب بنظرهم لا يحتوي كل شيء، وهذا واضح في كلمات علمائهم.
4- بالنسبة لـ “آل عمران، والد السيدة مريم وجد نبي الله عيسى لأمه” واضح – بحسب القرآن الكريم – أنّ لهم شأناً عظيماً في إنجاز الخطة المعدّة إلهياً، والتي تتطلب أحياناً الكتمان والتمويه على الظالمين، فبعد أن كانا موعودين بولد جاءتهم مريم: “إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ” آل عمران: 35 – 36.
الكتاب المقدس بعهديه “القديم والجديد” لم يذكر صراحة اسم والد السيدة مريم (ع)، وكل ما يمكن أن يذكر بهذا الشأن هو نص إنجيل لوقا – الإصحاح 3: “23 وَلَمَّا ابْتَدَأَ يَسُوعُ كَانَ لَهُ نَحْوُ ثَلاَثِينَ سَنَةً، وَهُوَ عَلَى مَا كَانَ يُظَنُّ ابْنَ يُوسُفَ، بْنِ هَالِي”، فبحسب النص أنّ هالي أبو يوسف النجار وليس والد مريم (ع) كما زعم بعض المشككين.
وعموماً، بالنسبة لاسم والد السيدة مريم العذراء ونسبها عموماً، ليس كما أوهم المشكك، بل هو مدار بحث وأخذ ورد عند الكثير من الباحثين. (انظر: موقع الأنبا تكلا هيمانوت – الرابط في التعليقات 4).
والسبب في ذلك: هو عدم ذكره صراحة في الكتاب المقدس، أما المعلومات التي تخص والدي مريم (ع) عند المسيحيين فهي مستقاة من التقليد الكنسي الذي هو عبارة عن مجموعة من الكتابات القديمة لدى الكنيسة لا أكثر.
يقول الأنبا توماس عدلي بشأن والدي العذراء: “الكنيسة الكاثوليكية لديها مصدران، الكتاب المقدس، والتقليد الكنسي، ولم يُذكَر عن والديها في الكتاب المقدس، ولكن تحدث عنهما التقليد الكنسي، ونحن نؤمن بالتقليد الكنسي، ونؤمن إنه وحي من الروح القدس”. انظر: المصدر المتقدم.
وبعكس الكاثوليك يؤمن البروتستانت بأنّ التقليد الكنسي فهم بشري غير معصوم وليس من روح القدس، والعصمة فقط للكتاب. (انظر: التراث الأرثوذكسي – مجلة أرثوذكسية شهرية – التعليقات 5).
التقليد الكنسي – في الحقيقة – يشبه إلى حد كبير عقيدة التقليد الموجودة عند المسلمين بشتّى طوائفهم، وكما أنّ المقلَّدين في الإسلام يدّعون – أو يُدّعى لهم – أنهم المتخصّصون في شرح النصوص الدينية على منهج الرسل، كذلك زعم الكثير من المسيحيين أنّ تعاليم الكنيسة انبثقت عن التقليد والتعليم الرسولي، لكننا نرى بوضوح اختلاف علماء الأديان في شرح الكثير من النصوص وما يترتب عليها من اختلاف في العقائد والشرائع، وهذا كافٍ لمعرفة أنّ ما قدّمه علماء الأديان من تفاسير وشروحات للنصوص الدينية ما هي إلا فهم بشري قابل للخطأ في كثير من الأحيان.
وعموماً، بحسب الاعتقاد الكنسي المشهور فإنّ زوج حنّة ووالد السيدة مريم (ع) اسمه “يهوياقيم”، لكن هذا لا يعني أنّ “الاسم” حقيقة قطعية لا يصح مخالفتها؛ خصوصاً بعد معرفة أنّ مصدرها بشر عاديون يخطؤون ويصيبون وتؤثر عليهم الكثير من القضايا أثناء التدوين.
من جهتنا، نحن نعتقد أنّ والد مريم العذراء اسمه عمران (وهي تسمية شائعة لدى بني إسرائيل)، وهذا وارد في القرآن والروايات، قال تعالى: “وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ” التحريم: 12.
عن الإمام الباقر (ع): (أوّل من سُوهم عليه مريم بنت عمران وهو قوله تعالى: “وما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ”) الحر العاملي، وسائل الشيعة: 27/260.
عن الإمام الصادق (ع): (إنّ الصيام ليس من الطعام والشراب وحده، إنّما للصوم شرط يحتاج أن يُحفظ حتى يتمّ الصوم وهو الصمت الداخل، أما تسمع قول مريم بنت عمران: “إنّي نَذرت للرحمن صوماً فلن أُكلّم اليوم إنسيّاً”، يعني صمتاً) الحر العاملي، وسائل الشيعة: 10/166.
أما أنّ المسيحيين – بحسب تقليدهم الكنسي المتأخر عن رسل الله – يعتقدون أنّ اسمه شيء آخر فهذا أمر يخصهم هم، ولا يؤاخذ عليه القرآن؛ لأنه لا يُعارض بكتابات الناس غير المعصومين واجتهاداتهم التي لا تتصل بكلام إلهي (كتاب إلهي أو كلام رسل الله)، ولا أقل سيكون إخبار مقابل إخبار؛ والتحقق من صدق إخبار القرآن “كل إخبارات القرآن” مرهون بصدق الناطق به أي رسول الله محمد (ص)، وهو صادق بانطباق قانون معرفة الحجج الإلهيين عليه.