(37)
مثال 3: يرى بعض المشككين أنّ إبليس طرد من الجنة لما رفض السجود لآدم بمقتضى قوله تعالى: “قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ” الأعراف: 13، وأسكن الله آدم وزوجته الجنة: “وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ” البقرة: 35، لكن فجأة نجد أنّ إبليس عاد إلى الجنّة بعد طرده منها وأغوى آدم: “فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ” البقرة: 36، وهل هذا إلا تناقض؟
الجواب: ينبغي أن نعرف أولاً أنّ مسألة بداية خلق آدم غامضة بالنسبة إلى علماء المسلمين، كما أنهم لم تتفق كلمتهم في بيان “الجنة” التي أسكن الله فيها آدم وحواء (ع) بداية، والتي أهبطا منها لاحقاً بسبب استجابتهما لوسوسة إبليس اللعين الذي طرد منها قبل ذلك بسبب رفضه السجود لآدم (ع). فهم – عموماً – فسّروا مسألة خلق آدم وحواء كقصة أرضية، وبالنسبة إلى “الجنة” التي كانا فيها فقد ذكروا عدة احتمالات؛ منها: أنها جنة الخلد، ومنها: أنها بستان من بساتين الدنيا، ومنها: أنها جنة من جنان السماء (أنظر: الطوسي، التبيان: 1/156؛ الطبرسي، مجمع البيان: 1/168؛ الرازي، تفسير الرازي: 3/3؛ القرطبي، الجامع لأحكام القرآن: 1/302؛ وغيرهم).
هذا، لكن الصحيح أنّ الجنة التي سكنها آدم وحواء ليست من جنان الخلد؛ لأن من يدخلها يخلد فيها ولا يخرج منها، قال تعالى: “قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ” آل عمران: 15، كما أنها ليست على هذه الأرض؛ لأن صفاتها الواردة في النص الديني والروائي يختلف عن القانون والنظام الذي يحكم كوننا الذي نعيش فيه، فمثلاً ورد في صفتها:
– ليس فيها جوع ولا عري ولا ظمأ ولا ضحى: “إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى” طه: 118 – 119.
– العري بعد العصيان: “فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى” طه: 121.
– العلاقة بينها وبين الأرض علاقة هبوط: “قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ” البقرة: 38.
ومثل هذه الأمور ليست موجودة في عالمنا وأرضنا التي نعيش عليها كما سيتضح، فالجنة التي سكنها آدم وحواء (ع) – إذن – ليست أرضية في هذا العالم، وإنما موجودة في عالم آخر أو كون آخر بحسب اللغة العلمية الحديثة.
الأمر الآخر: إنّ النص الديني يثبت وجود عدة جنان وليس جنة واحدة، ولا أقل هناك جنّتان، قال تعالى: “وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ” الرحمن: 46، وهما الجنة الملكوتية “الروحية” والجنة الملكية “الدنيوية النفسية”، والجنة الملكوتية هي في الحقيقة عدة جنان وليست جنة واحدة “جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا” وفيها يكون الخلود، أما الجنة الملكية فهي الموجودة في أقصى السماء الأولى “سماء عالم الأنفس” التي رفعت لها طينة آدم وحصل لها التسوية بنفخ الروح فيها بحسب النص الديني: “وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ” الحجر: 28 – 29، وكذلك ورد عن الإمام الصادق (ع): (كانت الملائكة تمر بآدم عليه السلام أي بصورته وهو ملقى في الجنة من طين فتقول لأمر ما خلقت) الراوندي، قصص الأنبياء: 41، أو (وضع في باب الجنة تطأه الملائكة) الجزائري، قصص الأنبياء: 55، أي وضع في الجنة الملكية في أقصى السماء الأولى وبالتحديد عند باب السماء الثانية “الجنة الملكوتية” (أنظر: أحمد الحسن، المتشابهات – جواب سؤال 3)، ومن يصعب عليه فهم لغة النص الديني فليتصور السماوات الملكوتية والسماء الملكية أكوان موازية لكوننا الذي نحن فيه ويعتبر عالم الأنفس هو أحد تلك الأكوان.
أما بالنسبة لبداية خلق الإنسان وخلق آدم بالذات، فقد أوضح السيد أحمد الحسن ذلك ببيان جلي وواضح ومدعم بالنصوص والحقائق الدينية، وهذه نقاط مقتبسة من كلامه بتصرّف:
(1- إنّ الله بدأ خلق آدم في السماء الأولى “سماء الأنفس”، وحتى يكون وذريته مؤهّلين للنزول إلى الأرض والاتصال بالأجساد، فلابد من رفع الطينة “التي تمثل كل ما في الأرض” للسماء الأولى وخلق نفس آدم وبقية الناس منها، فهذا أمر ضروري حيث إنّ الروح بثت في هذه الطينة المرفوعة وأصبحت هذه الطينة المرفوعة هي آلة اتصال الروح بالجسد وهما من عالمين مختلفين.
2- كانت بداية خلق آدم من طين الأرض ومائها لتحمل نفسه التي ستخلق في السماء الأولى ما في الأرض من قوة وشهوة تؤهله للتكاثر وللعيش في كل بقعة على الأرض وتؤهله ليهيمن على الأرض، فأخذت الملائكة بأمر من الله سبحانه شيئاً من تراب وماء الأرض ورفع إلى السماء الأولى وصب منه جسم آدم اللطيف في السماء الأولى ووضع في الجنة الدنيوية، أي في نهاية السماء الأولى أي في باب السماء الملكوتية “السماء الثانية”، وهي أولى الجنان الملكوتية تمر عليه الملائكة.
3- لما تهيأت الأرض لاستقبال آدم خليفة الله، نفخ الله روح الإيمان في جسد آدم المثالي الموجود في السماء الأولى، فتكونت النفس الإنسانية الأولى، فأمر الله الملائكة بالسجود له فسجد من سجد وتكبر من تكبر فطرد: “فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ”. ثم خلقت نفس حواء من نفس آدم: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً” النساء: 1، ثم أخرج ذريتهما وامتحنهم جميعاً الامتحان الأول في عالم الذر “عالم الأنفس”، وكان الامتحان بسؤال واحد: “وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ” الأعراف: 172، والآية واضحة “وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ” أي إنه كان عالم أنفس.
4- لما انتهى هذا الامتحان، شاء الله أن يتم ما كان في علمه من إنزال آدم إلى الأرض وامتحانه فيها، فحصل امتحان آدم في السماء الأولى “الجنة الدنيوية” وفشل في الامتحان كما كان مقدّراً له: “فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى”. فأنزل إلى الأرض هو وحواء صلوات الله عليهما.
5- النص القرآني واضح أنّ آدم وحواء خلقا وعاشا ابتداءً في الجنة الموجودة في السماء الأولى، وهي جنة دنيوية ولكنها ليست في الأرض التي يمكن أن يجوع فيها الإنسان ويعرى ويعطش ويضحى وتؤذيه الشمس والظروف الجوية إذا لم يعمل ويسعى لجمع قوته، وأيضاً: في الآيات المتقدمة من سورة طه ما لا يتناسب مع حال الأرض والأجسام فيها، فجسم الإنسان الأرضي إذا لم يغطَ جزءاً منه باللباس سيكون مكشوفاً ويراه صاحبه وغيره، ولو كان آدم وحواء يلبسا لباساً أرضياً فإنّه لا يصبح معدوماً عند المعصية، فالأمر إذن ليس أرضياً والقصة ليست أرضية، بينما لو كانا عند المعصية في الجنة الدنيوية في السماء الأولى فمن الطبيعي أن تبدو لهما سوءاتهما عندما يعصيان وليس قبل ذلك، لأن اللباس الذي يستر العورة هناك هو لباس التقوى وهو لباس تلبسه النفس كنتيجة طبيعية لطاعة الله ومخالفة الهوى والشيطان، وعند المعصية ينزع هذا اللباس وتنكشف عورة الإنسان أمام ربه: “يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ” الأعراف: 27. فالآية واضحة أنّ لباس آدم نزع عنه بسبب معصيته “لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا”، وهذا اللباس عاد بالاستغفار “فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ”.
6- النص القرآني واضح أيضاً في أنّ هبوط آدم وحواء من الجنة لا يمكن أن يقال إنه هبوط لو كانا في جنة على هذه الأرض فعلاً: “قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ”، وبالتالي فهو هبوط من السماء الأولى إلى السماء الجسمانية وإلى الأرض بالخصوص، والإمام الصادق (ع) بيّن أنّ آدم طلب أن يرجع إلى الجنة التي كان فيها وقد أجابه الله (أنظر: الرواية في معاني الأخبار، الصدوق: 269)، وهذا يبين بوضوح أنها جنة سيدخلها بعد انفصال نفسه – بالموت – عن هذا الجسد مرة أخرى ويعود كما كان سابقاً.
هذه قصة خلق آدم (ع) من الطين المرفوع إلى السماء الأولى ونفخ الروح فيه، فآدم خلق في الجنة الدنيوية الموجودة في السماء الأولى، فنحن سماويون وقد خلقت أنفسنا من الروح المنفوخ في الطين المرفوع لكي يتم امتحاننا في هذه الأرض، وتتمكن الأنفس من التواصل مع الأجسام الأرضية التي ستكون حيّز امتحانها في هذا العالم الجسماني المادي). انتهى الاقتباس، (انظر: وهم الإلحاد – الحق في مسألة خلق آدم: ص143 – 148).
ملاحظة: لما نقول أنّ آدم خلق من طين الأرض المرفوع ونفخ الروح، فنقصد بالرفع: (العودة خطوة أو أكثر باتجاه المبدأ أو المصدر، وهذا يعني لو صورنا الإنسان – كما بقية الخلق أيضاً – على أنه تجلي اللاهوت في العدم القابل للوجود، فسيكون لدينا مرتبة معينة كلما ابتعدنا “معرفياً” عن مصدر التجلي، وستكون هذه المرتبة المعينة أقل نوراً وأكثر ظلمة “العدم الذي يتخللها”. ولنفرض أنّ عالم المادة الذي فيه أجسامنا مكوّن من نسبة نور قدرها 10% ونسبة ظلمة “عدم” قدرها 90% وأن كل خطوة يتقدمها النور باتجاه الظلمة المطلقة “العدم المطلق – انعدام المعرفة والإدراك” تمثل رقماً واحداً صحيحاً، فيكون الرفع خطوة واحدة لجسم مادي “كطينة آدم عليه السلام” هو عبارة عن نقله إلى العالم الموازي الذي نسبة النور فيه 11% ونسبة الظلمة “العدم” فيه 89% أي العالم الذي سبقه) السيد أحمد الحسن، وهم الالحاد – معنى رفع تراب الأرض الى السماء الأولى: 148.
وهذا يعني أنّ المرفوع له وجود في جميع المراتب التي هي دون المرتبة التي رفع إليها، وإذا اتضح هذا فلا يبقى لإشكال المشككين وجه أصلاً، فالجنة التي طرد منها إبليس هي الجنة الملكوتية وكذلك الجنة الدنيوية في السماء الأولى، لكن آدم – وكذا حواء – لما كان له وجود في جميع المراتب التي تقع دون مرتبة الجنة الدنيوية التي رفع لها كانت وسوسة إبليس “لعنه الله” لآدم الموجود في المراتب الدنيا عن تلك المرتبة، ولم تكن لوجود آدم (ع) في الجنة الدنيوية ليقال كيف دخلها إبليس بعد طرده منها.
يقول السيد أحمد الحسن: (الجنة التي طرد منها إبليس “لعنه الله” هي الجنة الملكوتية، وأيضاً الجنة الملكية “الدنيوية”، ولكن آدم عليه السلام موجود في كل العوالم الملكية “الدنيوية”، وبالتالي فإنّ وسوسة إبليس لعنه الله كانت لآدم الموجود في العوالم الدنيوية التي هي دون الجنة الملكية “الدنيوية”) المتشابهات – جواب سؤال 3.