(الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ۚ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا). سورة المائدة: 3.
في الآية المباركة جملتان تبدأن بلفظ اليوم، وهما:
- (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ).
- (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا).
وكلاهما تتحدثان عن اليوم الذي امتاز بعدة أمور
1. يأس الكفار من الدين الإسلامي؛ (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ).
2. إكمال الدين الإسلامي؛ (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ).
3. إتمام النعمة؛ (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي).
4. رضى الله بالإسلام خاتماً للرسالات؛ (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا).
وهذه الأمور الأربعة تتحدث عن الإسلام ومستقبل المسلمين، فما حدث في ذلك اليوم أمر مهم للغاية لولاه لما اكتمل الدين ولما اصبح الإسلام مؤهلاً ليكون رسالة الله الخالدة.
– المقصود من اليوم في الآية الكريمة:
اليوم؛ ظرف زمان، ويطلق على الزمن الذي مقداره من طلوع الفجر الثاني الى غروب الشمس.
وقد ورد استعمال لفظ اليوم في القرآن الكريم مفرداً كقوله سبحانه: (قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) (طه: 59). واستعمل جمعاً، كقوله تعالى: (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} [إبراهيم : 5).
ولا يراد بلفظ اليوم – دائماً – الزمن من طلوع الفجر الى غروب الشمس، بل يمكن ان يراد به مطلق الزمن، كما ويمكن إرادة معنى آخر، فقد عبرت الاحاديث عن قيام القائم وعن الرجعة وعن القيامة بلفظ يوم.
عن الامام الصادق (ع): (أيام الله عز وجل ثلاثة: يوم يقوم القائم، ويوم الكرة، ويوم القيامة) (معاني الأخبار: ص366).
فلا يقصد بـ (اليوم) في الرواية المعنى المتعارف وهو؛ الفترة الزمنية التي تبدأ من الفجر وتنتهي بمغيب الشمس، وانما المراد بها أحداث او وقائع معينة واقعة في زمن معين، ولها أهميته عظيمة في الخطة الإلهية.
فيوم قيام القائم واقعة وحدث مهم في الدين الإلهي، ينتظره الأنبياء والصالحون بل البشرية جمعاء، كما أنّ يوم الكرة (الرجعة) عالم آخر مختلف عن العالم الجسماني، وكذا يوم القيامة فهو واقعة الحساب، او جولة الحساب.
يقال: يوم الفرقان، ويوم بدر، يوم حنين، يوم عاشوراء.
قال ابن كثير في بيان قوله سبحانه لموسى (ع): (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ) (إبراهيم : 5)؛ ( أي: بأياديه ونعمه عليهم، في إخراجه إياهم من أسر فرعون وقهره وظلمه وغشمه، وإنجائه إياهم من عدوهم، وفلقه لهم البحر، وتظليله إياهم بالغمام، وإنزاله عليهم المن والسلوى، إلى غير ذلك من النعم) (تفسير ابن كثير: ج4 ص478)
والسؤال الذي يطرح بعد ذلك؛ ما المقصود من اليوم في آية إكمال الدين ؟
1. المقصود من اليوم المرحلة الزمنية، كما يقال: (كنت امس شاباً واليوم شيخاً)، فالمقصود باليوم هنا المرحلة الزمنية.
2. المقصود من اليوم في الآية الفترة الزمنية المحصورة ما بين طلوع الفجر الى غروب الشمس.
ثم ان هؤلاء اختلفوا في اليوم على رأيين:
1. المقصود به يوم عرفة.
وهو اليوم التاسع من ذي الحجة من السنة العاشرة للهجرة.
وهذا ما اشتهر عند العامة، ورواه البخاري في صحيحه.
البخاري في صحيحه : ج1 ص 16 : (ان رجلاً من اليهود قال لعمر: ( يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً ! قال [عمر]: أيَّةُ آية ؟ قال :[اليهودي] ﴿ … الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا … ﴾. قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي (ص) وهو قائم بعرفة، يوم جمعة).
وفي صحيح البخاري: ج 5 ص127: (وهو واقف في عرفة . . . قالت اليهود لعمر: إنكم تقرؤون آية لو نزلت فينا لاتخذناها عيداً ! فقال عمر: إني لأعلم حيث أنزلت وأين أنزلت، وأين رسول الله (ص) حين أنزلت، يوم عرفة وأنا والله بعرفة. قال سفيان: وأشك كان يوم الجمعة، أم لا ).
واعتمد بعض علماء العامة على ما رواه البخاري، فروى السيوطي في الاتقان:ج1 ص75، في الآيات التي نزلت في السفر: ﴿ … الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ … ﴾، في الصحيح عن عمر أنها نزلت عشية عرفة يوم الجمعة عام حجة الوداع، وله طرقٌ كثيرة. لكن أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري: أنها نزلت يوم غدير خم. وأخرج مثله من حديث أبي هريرة، وفيه أنه اليوم الثامن عشر من ذي الحجة مرجعه من حجة الوداع . وكلاهما لا يصح).
وقال ابن كثير في تفسيره (ج2 ص14) : (قال أسباط عن السدي: نزلت هذه الآية يوم عرفة، ولم ينزل بعدها حلال ولا حرام. وقال ابن جرير وغير واحد: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يوم عرفة بأحد وثمانين يوما، رواهما ابن جرير. . . بل الصواب الذي لا شك فيه ولا مرية : أنها نزلت يوم عرفة، وكان يوم جمعة؛ كما روى ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وأول ملوك الإسلام معاوية بن أبي سفيان ، وترجمان القرآن عبدالله بن عباس ، وسمرة بن جندب رضي الله عنه).
مناقشة:
يمكن لنا معرفة عدم صحة ما تقدم من خلال السؤال التالي: ما هي خصوصية يوم عرفة من حجة الوادع ليكون سبباً لاكمال الدين ؟ وما هو الحدث الكبير الذي حصل في يوم عرفة (التاسع من ذي الحجة من السنة العاشرة للهجرة) والذي بسببه يأس الكفار، وبسببه أكمل الله الدين ورضيه ديناً خاتماً مستمراً الى ان يرث الله الأرض ومن عليها ؟
الحقيقة ان الروايات لم تذكر وجود حدث مهم في يوم عرفة بسببه أصاب الكفار اليأس، ونزلت آية اكمال الدين، وبالتالي يكون يوم عرفة من تلك السنة كغيره من أيام عرفة من السنين الماضية.
ان القول بكون الآية نزلت في يوم عرفة لا ينسجم مع محتوى الآية المباركة.
2. المقصود به يوم الثامن عشر من ذي الحجة من السنة العاشرة للهجرة.
وقد روي ذلك بطرق عديدة من طرق الفريقين، واكتفي ببعض ما جاء من طرق العامة:
1/ الدر المنثور: عن أبي هريرة قال: (لما كان يوم غدير خم وهو ثماني عشرة من ذي الحجة قال النبي صلى الله عليه وسلم: ” من كنت مولاه فعلي مولاه ” فأنزل الله اليوم أكملت لكم دينكم). أخرجه ابن مردويه، وابن عساكر ونقله عنهما السيوطي في الدر المنثور: ج2 ص ٢٥٩.
2/ الدر المنثور: عن أبي سعيد الخدري قال: (لما نصب رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا يوم غدير خم فنادى له بالولاية هبط جبريل عليه السلام بهذه الآية اليوم أكملت لكم دينكم). أخرجه ابن مردويه وابن عساكر ونقله عنهما السيوطي في الدر المنثور : ج٢ ص ٢٥٩.
3/ الخطيب البغدادي في تاريخه: في رواية شهر بن حوشب، عن أبي هريرة قال: (من صام يوم ثمان عشرة من ذي الحجة كتب له صيام ستين شهرا وهو ليوم غدير خم لما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيد علي بن أبي طالب فقال: ” ألست ولي المؤمنين؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ” من كنت مولاه فعلي مولاه ” فقال عمر بن الخطاب: بخ بخ لك يا ابن أبي طالب: ” أصبحت مولاي ومولى كل مسلم فأنزل الله اليوم أكملت لكم دينكم) تاريخ بغداد: ج8 ص290.
نزول آية اكمال الدين في يوم الغدير يدل عليه – مضافاً الى ما تقدم من الروايات – العديد من القرائن، اذكر اثنين منها:
1. يأس الكفار.
ان الكفار والمنافقين فشلوا في مخططاتهم ومؤامراتهم ضد الإسلام بسبب قيادة النبي (ص) الإلهية الحكيمة، فلم يبق لهم الاّ انتظار رحيله عن هذه الدنيا، فبقوا ينتظرون يوم رحيله لكي يبثوا الشكوك الفرقة بين المسلمين فيتغلبوا على الدين الإسلامي، وخصوصاً انه (ص) ليس له ولد من صلبه يتولى القيادة بعده، فبعد ان اعلن عن خليفته امام تلك الحشود، واثبت لخليفته (علي بن ابي طالب عليه السلام) وجوب الطاعة على حد وجوب الطاعة الثابت له (ص)، وبخليفته يحفظ الإسلام كما كان محفوظاً به (ص)، وبذلك انكسر الكفار والمنافقون ويأسوا وبائت مخططاتهم بالفشل، ورجعوا خائبين، وعلموا انهم لم يتمكنوا من محو الإسلام.
2. خاتمية الإسلام للاديان.
أراد الله ان يكون الإسلام دينه الخاتم الذي يلبي حاجات الانسان في مختلف الجوانب؛ السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية؛ وغيرها، وعلى امتداد العصور والازمان، وهذا لن يكون الا بوجود قدوة كاملة تقتدي البشرية بهداها، لكونها تبين إرادة الله سبحانه واحكامه وتشريعاته التي تواكب الزمن وتطوراته كي لا يكون الدين منغلقاً ومتعارضاً مع الحياة.
وما يقال اليوم من عدم تلبية الدين للحياة الإنسانية على الجانب السياسي، او ما يقال من معارضة الدين مع التطور العلمي الهائل؛ انما هو بسبب تغييب القيادة الإلهية الحقيقية المنصبة لقيادة البشرية.
فبعد تغييب القيادة الإلهية وتصدي المتطفلون وتلاعبهم في بيان النصوص الدينية، وانتشار الإرهاب بإسم الدين، وجمود الدين والانغلاقه، كل ذلك جعل الكثير يعتقد عدم صلاحية الدين لقيادة المجتمع في العصور الأخيرة.
والحقيقة التي ينبغي علينا معرفتها ؛ ان للدين الإلهي قيادة الهية، وهي الوحيدة التي تمثل الدين حقيقة، واما غيرها فهي قيادة متطفلة غير مؤهلة لقيادة الإسلام النقي الناصع، وقد نال الإسلام والمسلمين بسببها الكثير.
فاستمرار وجود القائد الإلهي العالم الحكيم بعد النبي (ص) يعني استمرار الاتصال بالله سبحانه، مما يجعل الدين صالحاً لمواكبة الحياة، (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا).
1. إنّ آية اكمال الدين نزلت في يوم الثامن عشر من ذي الحجة من السنة العاشرة للهجرة، في غدير خم لتبين اكتمال الدين بتنصيب خليفة رسول الله والناطق بعده (ص) بأمر الله سبحانه.
والذي يدل على ذلك الروايات والقرائن.
2. المراد من اليوم سواء أكان اليوم المتعارف أو اليوم بمعنى المرحلة لا يضر بدلالة الآية.